من أسوأ مواريث النظام المخلوع؛ انتشار العشوائية فى حياتنا.. إذ كانت الحكومات المسكينة غارقة فى غيبوبة لا تفيق منها، حتى تقع كارثة فتضطر إلى الخروج من الغيبوبة لثوانٍ معدودة لتبرر خيبتها فى الفشل فى منع الكارثة، والفشل فى مواجهتها، والفشل فى التعامل مع نتائجها، والفشل فى تقليل حجم الضحايا والخسائر، بل والفشل فى إخفاء حالة الخيبة التى تلازمها. والغريب أنهم كانوا لا يشعرون أن حالتهم المرضية مكشوفة، وأن الشعب يسخر منهم ومن إعلامهم الغبى وتصريحاتهم المملة المكررة! وقد ثبت أن العشوائية كانت سلوكًا حكوميًا أساسيًا، وكنا (وما زلنا للأسف) نشاهد العشوائية والارتجال وانعدام وجود أية خطط فى الحرائق المتعاقبة، وفى الانهيارات العقارية المتوالية، بل وعندما حاولوا أن يخططوا الشوارع لضبط الحالة المرورية؛ وجدنا تخطيطًا عشوائيًا رديئاً بلا أى معنى أو فائدة. والأمثلة لا حصر لها، ولكننا سنركز على حالة تثبت أنهم كانوا إما فى غيبوبة وإما متفرغون لمصالحهم الخاصة وليحترق الوطن بمن فيه.. فقد أنشئت مدن جديدة تحيط بالعاصمة مثل الشروق والعبور... إلخ، وهى مدن مخططة سلفا قبل أن تطأها قدم، وكانت أمامهم الصحراء الشاسعة والمساحات غير المحدودة ليتخلصوا من المشكلات التى تخنق العاصمة ويتحججون بعدم إمكانية إصلاح ما أفسده الدهر فيها؛ مثل الازدحام والكثافة السكانية العالية وضيق الشوارع والبيوت.. فهل وعوا الدرس؟! للأسف لا؛ فقد نقلوا صورة كربونية لمدننا التقليدية: المصالح الحكومية مكدسة فى قلب المدينة، المساحات التى تخصص للمشترين محدودة وكأنهم يقطعونها من أجسادهم، الحدائق العامة محدودة.. لا نظام مرورى عصري، لا أرصفة أو طرق واسعة، لا طرق مخصصة للدراجات... إلخ، إلخ. والأسوأ من ذلك أن منطقة عشوائية ضخمة نشأت (عمدًا مع سبق الإصرار والترصد) أمام مدينة الشروق بمساحة تفوق المدينةالجديدة نفسها، ويقال إن هذه الأراضى الشاسعة استولى عليها الكبار من رجال المخلوع (بعشرات ومئات الفدادين) بذريعة استصلاحها ثم قاموا ببيعها (بالمتر) لتبنى دون تراخيص ودون مرافق وتصبح إحدى القنابل العشوائية الموقوتة بأحدث المدن الجديدة. وكان المفروض بعد الثورة أن تسرع الحكومة بوضع الأنظمة والآليات وإصدار القوانين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن للأسف فالأمور ما زالت كما هي! ألا تدل هذه العشوائية التى تلازم حياتنا كلها، والكوارث المتعاقبة والفشل فى التعامل معها على أننا مازلنا نحكم بحكومة مكسورة الجناح؟ حكومة دائمة المسكنة والشكوى من المواطنين، والقول إنه من المستحيل تخصيص جندى لكل مواطن! وكأن هذه الحكومة تدير أرضا معادية ليس لها سيطرة عليها! أين الإدارات المحلية?.. أين حراس الوطن?.. أين من كانوا يدعون معرفة "دبة النملة"?.. هل تعجز الحكومة بجلالة قدرها عن منع إقامة منشآت دون ترخيص? أم أنها المسكنة والتهرب من المسئولية؟! قس على ذلك ما يحدث فى كل موقع وكل ميدان؛ بناء على الأرض الزراعية دون تصريح.. إنشاء أبراج سكنية دون التزام بالتنظيم أو الارتفاعات.. حفر فى الشوارع دون تصريح وترك الحفر على هيئة كمائن للسائرين.. إنشاء «جبال - يسمونها مطبات»، بعرض الطريق تؤذى السيارات، بحجة إجبار السائقين على تهدئة السرعة، وكأنه لا يوجد قانون للمرور.. القيادة بسرعات جنونية والقتل اليومى للمئات من الركاب والمشاة المساكين.. كسر الإشارات والوقوف فى غير أماكن الانتظار دون رادع.. حجز أماكن «بالقوة» أمام البيوت وبعض المنشآت لمنع السيارات من الانتظار بها قبل دفع الإتاوة أو تحويلها إلى ملكية خاصة.. إلقاء القمامة على هيئة أكوام فى شوارع هامة.. تكديس مواد البناء ونواتج الهدم بالشوارع لشهور وسنوات.. استخدام الأرصفة والشوارع لأعمال تجارية وحرفية ومنع المواطنين من استخدامها للسير.. توزيع سلع غير مطابقة للمواصفات... إلخ إلخ. إذا كانت الحكومة مسكينة ومكسورة الجناح إلى هذه الدرجة فلماذا تبقى فى الحكم وهى فاشلة?!.. المفروض أن الحكومة تنوب عن الشعب فى وضع الأنظمة واللوائح موضع التطبيق.. بل إن الشعوب عندما «تختار» حكوماتها، فإنها تمنحها الحق فى إنزال العقاب بالمخالفين للقانون حماية لهم ولباقى المواطنين. ترى هل حكومة (الثورة) لا ترى هذه المخالفات؟.. أم أنها تعتبرها أمورًا عادية؟. أم أن المسئولين بالحكومة مشغولون عنا بأمور أخرى مثل حكومات المخلوع? وما هذه الأمور التى جعلت الحكومة مسكينة إلى هذه الدرجة؟! لقد كان من أسباب العشوائية الحكومية تلك الجزر المعزولة داخل «مجلس» الوزراء.. فكل وزارة عبارة عن مملكة مستقلة لا يستطيع صاحبها الاقتراب من الممالك الأخرى، لذلك لا تجد عملاً مخططًا أو متكاملاً, وإنما خبطة هنا وخبطة هناك.. فإذا قاموا بتنظيف شارع مثلاً وضعوا الأتربة فى الشارع المجاور وأحيانًا فوق الرصيف فى الشارع نفسه, لكى تعود إلى قواعدها سالمة عند مرور سيارة مسرعة! فلماذا تستمر هذه العشوائية بعد الثورة؟! ليت حكومة الثورة تأخذ العبرة والخبرة من ذلك الرجل الذى سمعنا عنه ولم نره (أبو رجيلة), الذى كان يمتلك حافلات نقل الركاب بالعاصمة قبل تأميمها.. فقد أنشأ إدارة لإصلاح المطبات بالشوارع حفاظًا على مركباته ولتقليل الإنفاق على قطع الغيار, رغم أن ذلك لم يكن اختصاصه ولا واجبه، وإنما واجب الحكومة أو البلدية.. ولكنه أدرك أن نجاح مشروعه يتطلب التدخل (بماله) فى اختصاصات الآخرين المقصرين أو الغافلين. وإذا أردنا أن نتبع سنة هذا الرجل البارع فلدينا الكثير مما يمكن اعتباره واجبًا ملزمًا لأكثر من وزارة.. من ذلك (مثلاً) مشكلة النظافة العامة التى تعتبر أكبر عار يجلل أية حكومة.. فلو كنت من وزير الصحة لاعتبرتها أولى واجبات الوزارة وقاية للمواطنين من الأمراض وتوفيرًا لنفقات علاج المرضى.. ولو كنت من وزير السياحة لامتنعت عن استقدام السياح لحين الانتهاء من هذه المشكلة التى تنفرهم وتجعلهم ينقلون الدعاية السيئة عن بلادنا وآثارنا.. ولو كنت من وزير التعليم لأوقفت الدراسة بالمدارس والجامعات حتى يقوم الطلاب بتنظيف بيئتهم التى تعتبر عنوانهم. ولو كنت من وزير الشباب لأوقفت الأنشطة والمعسكرات الصيفية على هذه المشكلة المخجلة للشباب وغيرهم.. ولو كنت من وزير الداخلية لاعتبرت أن القاذورات والمطبات والبالوعات بالشوارع أحد مسببات الأزمة المرورية الخانقة وجندت جنود الأمن المركزى لإزالة هذا العار.. ولو كنت من وزير البيئة لاعتبرت أن مشكلة النظافة أولى من التلوث البيئى، لأن من يفشل فى حل مشكلة القمامة لن ينجح فى إزالة التلوث المتشعب.. وهكذا. والواقع المؤسف أن كل هذه الوزارات وغيرها تعتبر أن الأمر لا يعنيها وتترك قضية النظافة العامة للبلدية أو المحافظة.. ويظل الحال على ما هو عليه: وزارة تبنى ووزارات تهدم, ويسمون كل ذلك إنجازات!! للأسف الشديد فقد صارت العشوائية جزءًا أساسيًا من حياتنا.. والبركة فى نظامنا الحكومى الذى لم يتغير، وكأنه موروث إجبارى مصري، أو ماركة مسجلة مصرية!