تعجبت كثيراً للتصريحات التي أطلقها مؤخراً رئيس الوزراء المصري الدكتور أحمد نظيف حول أن مصر تعاني من مشكلة ندرة في المياه، وأن علينا أن نخفف قدر الإمكان من زراعة المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه مثل القمح والأرز، خاصة وأنه يمكننا شراء تلك المحاصيل الاستراتيجية من الدول الصديقة بأسعار تقل عن تكلفة الزراعة محلياً، وفي ذات الوقت يمكننا التركيز على الفاكهة مثل الكنتالوب، تلك الفاكهة التي لا تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، فضلاً عن أننا كحكومة حققنا معدلاً كبيراً في تصدير تلك الفاكهة والتي تحتاجها الأسواق العالمية بقوة، وعليه فإن تلك الفاكهة عند الحكومة تمثل رافداً مهماً من روافد العملة الصعبة التي تحتاجها الحكومة بشدة؛ خاصة وأن الحكومة مطالبة بالتزامات مالية دولية يتم دفعها بالعملة الصعبة، ومن بينها بالبديهة المحاصيل الاستراتيجية المستوردة من الدول الصديقة. تصريحات الدكتور نظيف أتت متزامنة مع تصريحات متفرقة رسمية وغير رسمية بأن أزمة مصر مع المياه لا تقف عند حدود نهر النيل، بل إن مصر تعاني أزمة كارثية مع المياه الجوفية، وأن تلك المياه الجوفية مهددة بالنضوب، وعلت التحذيرات من محاولة الاقتراب من أية مشروعات استصلاحية تعتمد على المياه الجوفية، ليتم تطبيق مصطلح " الأمن القومي المائي" على كل محاولة لحفر مجموعة من الآبار في الصحراء المصرية. حاولت في ظل تلك التصريحات والتحذيرات والإغراءات باستيراد المحاصيل الاستراتيجية من البلدان الصديقة، أن أجد مبرراً علمياً مقنعاً لكنني لم أجد، ربما الاقتناع قد انسلخ مني لأنني كنت واقفاً على ضفاف نهر النيل وأنا أفكر في تلك العقدة التي يحاول أن يقنعنا بها رئيس الحكومة المصرية، والذي يجري هذا النهر من أمامه ليل نهار بأمر رب العباد، ولا أدري ما الذي جعلني أتذكر مقولة فرعون مصر منذ سبعة آلاف عام {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الزخرف51. صرفت ذهني عن نهر النيل وما يحويه من مياه عذبة يحسدنا عليها العالم أجمع، وذهبت أفكر في المياه الجوفية وأحوالها، ومع تقديرنا للدراسات المائية، لكنني على قناعة بأن المياه الجوفية لا يعلم مداها إلا الله، وأنها سر من الأسرار الربانية في الكون، فبئر زمزم على سبيل المثل وإن كان البعض يعتبره استثناءً إلا أنه يبقى عين جوفية شرب منها المليارات وسيشرب منها المليارات بإذن الله إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. تركت بئر زمزم؛ بل وتركت المنطقة الشرقية بالكامل، قائلاً ربما أنها أرض مباركة بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأن الآبار الجوفية فيها سر من الأسرار والتي بها ستتحقق دعوة الثمرات التي دعا بها أبو الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ثم صرفت بصري تلقاء المنطقة الغربية، وتأملت الشقيقة ليبيا، فوجدت أن مساحة ليبيا تزيد عن ثلثي قارة أوروبا, ومع ذلك فإن كمية المطر التي تصلها سنوياً تقل بمقدار النصف عن كمية المطر التي تهطل على منطقة أوربية صغيرة مثل جنوبفرنسا، كما وجدت أن أغلب الأراضي الليبية تمتد في مدارات صحراوية جافة, يكاد المطر أن ينعدم فيها كلية؛ ولا يوجد لديها فرع من فروع نهر النيل، لكنها مع ذلك ولمواجهة تلك الأزمة "الفعلية" بدأت عام 1984 بمشروع استراتيجي ضخم عرف ب " النهر العظيم"، حيث تقوم فكرته على حفر عدد من الآبار الجوفية في جنوب شرق ليبيا وبالتحديد في الحدود مع مصر، وقد تم بالفعل حفر 1300 بئر جوفي تضخ يومياً 6.5 مليون متر مكعب من المياه العذبة؛ ثم يتم نقل المياه المتدفقة إلى المدن الكبرى في الشمال، وذلك من خلال منظومة أنابيب يبلغ طولها 3500 كيلو متر مربع، ليتم تجميع المياه في خزانات وبحيرات صناعية، ثم يتم استخدامها بعد ذلك في الزراعة والشرب وذلك بنسبة 62 ٪ للزراعة؛ وما بين 36 إلى 37 ٪ للشرب. وقد بلغ إجمالي ما صرف على مشروع النهر العظيم 8 مليار دينار ليبي بينما كان متوقع للمصروفات أن تكون 14 مليار دينار ليبي، وجميع المصروفات كانت بتمويل محلي خال من القروض الدولية، وباشتراكات رمزية من أهل الجماهيرية. وبعيداً عن الملابسات التي قيلت حول هذا المشروع الليبي وأن هذه المياه في الأساس هي مياه مصرية أخذتها ليبيا بدون وجه حق؛ أقول: لماذا لا نقوم في مصر بعمل نهر صناعي موازي للنهر الليبي، خاصة أن المنطقة التي يأخذ منها الجانب الليبي مياهه هي منطقة مشتركة مع مصر، ولا أجد أي مانع وطني من عمل هذا المشروع الاستراتيجي الذي قد يساهم في اخضرار أراضي الساحل الشمالي، والتي يعدها البعض من أخصب الأراضي المصرية. سؤال نتمنى الإجابة عليه عملياً ولو بالبدء في دراسة جدواه، ووضع إطار عمل لتنفيذه على أرض الواقع، ونواجه الأزمة التي يحذرنا من مغبتها الدكتور نظيف. [email protected]