انصب الجدل الفلسطيني والعربي في الذكرى الأولى للحرب الإجرامية على غزة، على نتائج الحرب وتداعياتها، وما فشلت إسرائيل في تحقيقه وما أنجزته المقاومة الفلسطينية. وعلى الرغم أن المقاومة الفلسطينية بإمكانياتها المتواضعة تمكنت من إفشال المخطط الإسرائيلي، الذي هدف بشكل أساسي لفرض الأجندة الصهيوأمريكية في المنطقة، وللقضاء على أحد بؤر الممانعة القليلة في العالم العربي، تمهيدًا لتصفية القضية الوطنية، إلا أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أنه لم تكن هناك إخفاقات واضحة للمقاومة. لذا لم يكن من الصحة أن ينطلق الجدل حول الحرب من افتراض مفاده: أنَّ أداء المقاومة الفلسطينية خلال الحرب كان مثاليًا، لأن هذا الافتراض يعفي أصحاب الشأن من مستلزمات عملية إعادة تقييم شاملة؛ يُفترض أن تكون قد أُنجزت في أعقاب هذا الحدث التاريخي، غير المسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني. ولوضع النقاط على الحروف فإنَّه من الأهمية بمكان أن نُشير إلى بعض هذه الإخفاقات. مقاومة بلا استراتيجية يُعطي الجدل حول الحرب الأخيرة الانطباع وكأن هناك مقاومة فلسطينية واحدة ذات استراتيجية مُتفق عليها، تَهدف لتحقيق مجموعة مبلورة من الأهداف، وهذا الانطباع مناف للواقع. فلا توجد استراتيجية واحدة للمقاومة، فكل فصيل لديه استراتيجيته الخاصة التي تمليها اعتبارات متباينة، وفي بعض الأحيان تكون هذه الاعتبارات غير موضوعية. فليس سرًا أنه في كثير من الأحيان يخضع العمل المقاوم لاعتبارات المناكفة بين الفصائل. فعلى سبيل المثال في قطاع غزة؛ تحرص بعض الفصائل حاليًا على القيام ببعض العمليات من منطلق إحراج حركة حماس وحكومتها، دون أي اعتبار لما يتركه هذا السلوك من تداعيات خطيرة على الناس. فهل من الحكمة أن تُعطى إسرائيل المسوغات لمضاعفة وطأة الحصار على هذا الشعب، لتخفيض سقف توقعاته وآماله، مع العلم أنَّ المُناكفة هو اعتبار أصيل من اعتبارات الفصائل الفلسطينية. كذلك من الدلائل على عدم وجود استراتيجية تنظم عملية المقاومة في فلسطين، هو عدم ربط عمل المقاومة بتحقيق أهداف سياسية قابلة للتنفيذ، وبثمن يمكن تحمله. فلا يُعقل أن يتم تنفيذ عمليات المقاومة بناءً على الاعتبارات الميدانية، دون أن يتم ربط ذلك بتحقيق هدف سياسي واضح وجلي، وتكون هناك إمكانية لقياس مدى تحققه. في نفس الوقت يتوجب دائمًا الانتباه إلى القيود التي يَفرضها ميزان القوى بين المقاومة وإسرائيل، فخوض أي مواجهة دون أن يضع المخططون لها في حسبانهم القيود الناجمة عن ميزان القوى، الذي يميل لإسرائيل بشكل جارف؛ يعني فتح المجال أمام الكثير من المخاطر. قيود النظام العالمي ومن المظاهر التي تنفي وجود استراتيجية للمقاومة؛ هو عدم إيلاء اهتمام للمتغيرات الدولية والإقليمية، ففي كثير من الأحيان تتصرف فصائل المقاومة كما لو كانت اللاعب الوحيد في العالم، وهذا يمثل وصفة كلاسيكية للحسابات الخاطئة، ودليلاً على عدم استيعاب تجارب الماضي. فإنْ كان لا يحق للمقاومة الفلسطينية التسليم بإفرازات النظام العالمي الظالمة، فإنَّه يُجدر بها عدم التصادم معه. فليس من العيب أن نتعلم مما قامت وتقوم به إسرائيل. فالصهاينة لم يشنوا عدوانهم على القطاع إلا في فترة الفراغ السلطوي في الولاياتالمتحدة، الممتدة بين إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتولي الرئيس باراك أوباما مقاليد الحكم، على اعتبار أن هذا التوقيت يسمح لإسرائيل شن عدوانها في أقل قدر من الضغوط الدولية، وهذا ما حدث بالفعل. ومراعاة قيود النظام العالمي في بعض الأحيان تكون من صلب المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا، وخير دليل على ذلك التداعيات الإيجابية الكبيرة الناجمة عن تقرير "جولدستون"، والذي مسَّ بشكل كبير بمكانة إسرائيل الدولية، وجعل الكثير من صناع القرار في إسرائيل يرون أنَّه يتوجب استخلاص العبر من الحرب، وعدم السماح بتولد ظروف تؤدي إلى إصدار مثل هذا التقرير. غزة كساحة وحيدة للمواجهة لقد تحول قطاع غزة قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة إلى ساحة المواجهة الوحيدة ضد الاحتلال، وذلك بسبب تراجع العمل المقاوم في الضفة الغربية بشكل كبير جدًا بفعل تعاون أجهزة السلطة الأمنية وجيش الاحتلال في تعقب المقاومة ومطاردة المقاومين، علاوة على توقف العمل المقاوم من الخارج بشكل نهائي. ولقد مثل هذا الواقع مكمن آخر من مكامن الخلل في أداء المقاومة الفلسطينية. فلا يَسمح الواقع الجيواستراتيجي والديموغرافي لقطاع غزة للعب هذا الدور، فهناك مليون ونصف المليون نسمة يتكدسون في مساحة لا تتجاوز 360 كلم مربع، وهذا ما جعل إسرائيل قادرة على توظيف كل إمكانياتها العسكرية في مواجهة المقاومة. وقد أدّت الكثافة السكانية الكبيرة في القطاع إلى مضاعفة الآثار السلبية للعدوان على الجمهور الفلسطيني؛ بعدما شعر الاحتلال أنه بإمكانه تجاوز كل الخطوط الحمراء. من هنا فإنَّه يتوجب إعادة تقييم هذا الواقع بشكلٍ جذري. إمكانيات وكفاءة صحيح أن ميلَ ميزان القوى بشكل جارفٍ لصالح الاحتلال، يُمكن الصهاينة من إيذاء المقاومة والمقاومين، لكن يتوجب على المقاومة تقليص قدرة إسرائيل على المسِّ بها، مستفيدة من تجارب المقاومات العربية والإسلامية في المناطق الأخرى. فقد كان من الواضح خلال الأعوام الأربعة الماضية أن الطائرات بدون طيار تُمثل رأس الحربة في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وتنفيذ عمليات الاغتيال والرصد وجمع المعلومات الاستخبارية، حيث تعمل في الأجواء الفلسطينية بشكلٍ حر. مع العلم أن المقاومة العراقية والأفغانية نجحت في معالجة هذا الخطر بإمكانيات زهيدة، حيث أن المقاومين هناك تمكنوا من شراء برنامج حاسوب يطلق عليه SkyGrabber يتم شراؤه بمبلغ 26 دولار عن طريق الإنترنت، حيث يقوم هذا البرنامج بتتبع الصور التي تلتقطها الطائرات بدون طيار لتفادي عمليات الاغتيال، فيحقق المقاومون هدفين، حيث أنهم أولاً ينجون من عمليات الاغتيال. وثانيًا يحصلون على معلومات استخبارية ثمينة؛ ممثلة في الصور التي تلتقطها الطائرات بسعرٍ زهيد. كاتب هذه السطور ليس خبيرًا عسكريًا، لكن من الواضح أنَّه حتى في ظل الظروف الحالية؛ بالإمكان تقليص قدرة جيش الاحتلال على تسديد الضربات الموجعة للمقاومة، وهذا يستدعي استثمار جهد وتفكير وإظهار قدرٍ من الإبداع. إنَّ الإشارة للملاحظات آنفة الذكر؛ تمثل دعوة لإعادة التقييم، وتأتي فقط من باب الحرص على المقاومة على اعتبار أنَّها الخيار الوحيد لمواجهة الاحتلال وتبعاته؛ في ظل انهيار كل الخيارات الأخرى، وفي ظل اندفاع الصهاينة إلى المربعات الأكثر تطرفًا وهذيانًا. المصدر: الإسلام اليوم