راهن البعض من المحللين والصحفيين والناقمين على الإخوان وقليل من الغاضبين على حدوث انشقاق داخل الإخوان وتصدع للجماعة التى تشكل القوة الشعبية الأولى والحركة الإسلامية التاريخية ومدرسة الاعتدال والوسطية والتى تحظى بتمثيل برلمانى يصل إلى 20% فى مجلس الشعب وهو أقوى تمثيل لقوة معارضة منذ نشأة الحياة البرلمانية المصرية. هؤلاء كانوا بين مشفقين على الجماعة حريصين على وحدتها وبقاء التنوع داخلها وخافوا على قدرة الجماعة وقيادتها على إدارة التنوع والاختلاف المشروع بين أعضائها خاصة فى القيادات العليا كما أشفقوا على قدرة المعارضة على التصدى للمخاطر التى تهدد البلاد إذا تصدعت تلك الجماعة أو انسحبت من الساحة السياسية.. وكان هناك أيضاً متربصين بها يريدون إيقاع الخلاف والشقاق داخل صفها، ومنهم شامتين بالإخوان يرغبون فى إضفاء مسحة من الرضا داخل نفوسهم على مواقف سابقة لهم ولسان حالهم ومقالهم يقول: ألم نقل لكم لا أمل فى الإخوان ولا قدرة لهم على احتمال الاختلاف فى الرأى .. الخ. يريدون أن يبرروا موقفهم السابق والحالى ويقطعون الطريق على مراجعة أنفسهم بشجاعة حيث لا طالوا بلح الشام ولا عنب اليمن ولا احتفظوا بود إخوانهم السابقين الذين عاشوا معهم فترات من أحلى فترات الحياة. وكان ظهور الأخ الحبيب د. عبد المنعم أبو الفتوح على قناة الجزيرة فى ندوة لمدة ساعتين تعرض فيها لحصار إعلامى وأكاديمى يريد منه كلمة واحدة ضد الإخوان وفشل ذلك الحصار تماماً وكان "منعم" كعادته عملاقاً شجاعاً جريئاً لا يتخلى عن آرائه ومواقفه إرضاءً لأحد ولا يخضع لضغط ما أيّاً ما كان ولا يقع فى فخ ما مهما كانت الظروف فنزل كلامه برداً وسلاماً على الإخوان الذين توقعوا منه ذلك، وحقق كلامه طمأنينة للغاضبين من الإخوان أنهم يستطيعون البقاء داخل الصف ويعملون للتجديد والتطوير لمواجهة أعباء مراحل خطيرة قادمة تحتاج من الإخوان جميعاً تضافر الجهود وإعمال العقول وإخلاص القلوب ووحدة الصف ومتانة التكوين وفعالية وكفاءة عالية فى الآداء وألا يستسلموا لرغبة مؤقتة فى الانسحاب أو تزيين البعض لهم بالجمود وعدم الحركة. ثم كان ظهوره فى العاشرة مساءً بعد ذلك ليدلل على ثبات موقفه وأنه لم يتغير وإن لم يعجب كلامه أو مواقفه وآرائه بعض الإخوان الذين يرون فيها جرأة لم يعهدها من إسلامى وتثير عليهم انتقادات بعض العاملين المتشددين فى اتجاهات إسلامية أخرى، وينسى هؤلاء كم البنا وقطب والتلمسانى لهجوم شديد من تلك التيارات، بل وكم تعرض الغزالى وكذلك القرضاوى ود. عمارة الذين يتعرضون الآن لنفس الهجوم من تلك التيارات التى لا تقبل أى اختلاف مع أفكارهم واختياراتهم الفقهية. وكانت حوارات الأخ الحبيب أ.د. السيد حبيب فى الصحافة تؤكد على معنى رئيسى لا يجب أن يضيع وسط العناوين المستفزة أو الاختلاف الواضح حول الإجراءات وتفسيرات اللوائح التى أدت إلى تلك الأزمة، هذا المعنى هو أن الأخ الحبيب يقول بكل وضوح : إن بقاءه داخل الصف وفى مجلس شورى مصر حقيقة ثابته وأنه سيظل وفياً لهذه الدعوة ولجماعة الإخوان وسيظل عطاءه مستمراً أيّاً كان موقعه. إذن طاشت توقعات الذين راهنوا على التصدع والانشقاق وتمزق الصف الإخوانى لأنها لم تبن على أسس واقعية وليس لها مقدمات موضوعية ولا توجد معطيات سليمة تؤدى إلى تلك النتيجة الوهمية ، أفلت من هذا الفخ الصديق ضياء رشوان الذى استعاد حكمته وخبرته سريعاً فلم ينساق وراء التخيلات وعاد إلى تاريخ الإخوان ليؤكد أنه لن يحدث انشقاق. يبقى السؤال الذى يبحث عن إجابة ولعلى الآن أضع اجتهادى بين يدى هؤلاء جميعاً : لماذا لم يحدث الانشقاق المتوقع ؟ أولاً: إدراك أبعاد الانتماء للإخوان لدى أعضاء الجماعة فهم يدركون أنهم ينتمون لمبادئ وفكرة ومنهاج قبل أن يكونوا أعضاء فى تنظيم وجماعة وهيئة. وهم تعلموا من منهج الإسلام أن إخلاصهم لله وحده يجب أن يسبق ارتباطهم بالأشخاص، لأن إيمانهم القوى هو سر تأييد الله لهم. وأدركوا من خلال تاريخ الإخوان الذى درسوه أن وحدتهم هى سر قوتهم بعد الإيمان بالله والإخلاص له، وأن المنهج الإخوانى يحرص على ترسيخ تلك الوحدة بالتربية على سلامة الصدر وحسن الظن وتصحيح الأخطاء وإسداء النصح بحكمة والعمل على علاج عيوب النفوس بالتزكية الروحية والتذكير المستمر. وتعلموا أن أحد أسباب قوة الإخوان هى السماح بالاختلاف الفقهى فى الفروع، وحق كل أخ فى الاحتفاظ برأيه الفقهى وفكره الحر، واقتناعاته المبنية على أصول شرعية مع ضرورة التزامه بالقرارات واجتهاده فى تنفيذ التكليفات والحرص على وحدة الصف. ثانياً: الوفاء وإنكار الذات هذا الوفاء لكل من أفاد الأخ لفظه وعشت معه لحظات الوداد والحب يجعل الأخ يتذكر الأوقات الطيبة التى قضاها مع إخوانه، فلسنا فى صدد صراع ضد بعضنا البعض ، ولسنا حتى فى صدد صراع مع المخالفين لنا فى الرأى ولا خصومنا السياسيين، ونتمنى حتى للكارهين لنا والحاقدين علينا أن يتعرفوا علينا عن قرب فيغيروا رأيهم فينا، فكيف بمن عشنا معهم داخل السجون وخارج السجون، فى طمأنينة أو مطاردين، أحلى لحظات الحياة، وبنينا معاً وشيدنا سوياً هذا البناء الضخم وكل فرد فينا هو لبنة من اللبنات إذا وقعت من مكانها أو خلعها متربص فإنه يهدد البناء كله بالدم والفناء. ويدركون أن الصبر مع المصابرة ، والعمل مع الأمل، والبقاء داخل الصف للعمل المنتج الجاد أفضل من الخروج والذوبان فى المجتمع الواسع الذى سيغرق الأخ فى أمواجه وتضيع جهنوده الفردية مهما كانت . ثالثاً : التجارب التاريخية فالمرء يتعلم من التاريخ وهو مدرسة للأجيال فغالبية من غادر الإخوان غاضباً أو منشقاً أو منسحباً أو آملاً فى بدء مشروع جديد كانت نتيجة جهودهم ضئيلة ومحدودة، وبقيت الإخوان تتعرض للمحن والصعوبات ثم تعود قوية شابة متجددة من جديد. عاد كل من الغزالى وصالح عشماوى والسيد سابق وغيرهم نادمين على ما بدر منهم فى حق المرشد الصابر الصامد حسن الهضيبى واحتفظ الإخوان لهم بالود والعرفان لتاريخ سبق ولأوبة محمودة. وفشلت معظم المشاريع الأخرى مثل "شباب سيدنا محمد"، و "لجنة الشباب المسلم"، وغيرها ممن عاش بعيداً عن ا لإخوان فى تحقيق أى آمال عريضة، بل عاد من رفض منهج الإخوان السلمى إلى مربع العمل الدعوى الوسطى المعتدل. وفى تجارب الآخرين لنا عبرة، فكل الانشقاقات التى حدثت على الوفد المصرى ( السبعة ونصف) , " السعديين" و "الكتلة الوفدية" لم تشكل تصدعاً فى الحزب الشعبى الرئيسى الذى عاد أيضاً إلى الساحة بعد غياب ربع قرن، وذابت مع التاريخ أحزاب الأقلية. وها هى الحركة الشيوعية والتيار اليسارى يعانى منذ نشأته من التمزق والتشتت والاتهامات بالخيانة للمبادئ وأحياناً بالعمالة للأجهزة، فكانت النتيجة هى ذوبان الحركة كلها تقريباً إلا قليلاً من المخلصين للفكرة حتى الآن. رابعاً: عدم الوقوع فى خداع النظام فلا شك أن عناد النظام المصرى وإصراره على خنق الحريات العامة ومنع أى تنظيمات حقيقية وإغلاق الطريق أمام كل المحاولات الرامية للترخيص لأحزاب جديدة أو تشكيل جمعيات أهلية جادة، هذا العناد والإصرار على المضى قدماً فى ديكتاتورية قاسية تجعل الأولوية الأولى هى للبقاء داخل الصف الإخوان وعدم المغامرة بالخروج على أمل الحصول على رخصة قانونية لن تتحقق، أو القيام بنشاط جديد لن يُسمح له أو .. أو ... أو على أمل الحياة الآمنة بعيداً عن المضايقات الأمنية التى لا تتوقف ولن تتوقف فهناك دائماً شك وحذر لدى تلك الأجهزة من أى انشقاق لأنه فى نظر بعضها ظاهرى وليس حقيقياً مهما كان تهجم هؤلاء وهجومهم على الإخوان. هذه هى بعض الأسباب الموضوعية والحقيقية التى تؤدى إلى تماسك الصف الإخوان ووحدته رغم كل التوقعات. فالشكر لله وحده والحمد له سبحانه على نعمة الإخوة الصادقة والوفاء والحب فى الله.