كعادة أي أب يترك لأبنائه مساحة للتعبير عن هواياتهم، ويوفر لهم متطلبات الاستمتاع بها، حملت لابني الصغير صاحب التسع سنوات أدوات الرسم، من دفتر وألوان وأقلام، وخصص الولد لنفسه وقتًا؛ ليمارس هوايته بالرسم، انشغلت عنه أتابع الأحداث من خلال التلفاز، أتابع ما يحدث في الخصوص والكاتدرائية، لم أكن أتخيل أن تأتي هذه المتابعة بوبال على الإدراكات الحسية والذهنية لهذا الطفل البريء ، ما أن انتهى ابني من بعض رسوماته، حتى صرخ كعادته متباهيًا فخورًا بإنجازه، بابا بابا ماما شوفتوا رسمت إيه... كلمات بريئة فخر بنتاجه .. يقع على مداركي البصرية أنا ووالدته كالصاعقة، ابني رسم البندقية والمسدس والمولوتوف... صرخت حسبي الله ونعم الوكيل. اختلطت في ذهني ساعتها جميع المشاعر، لم أجد ما ينطق به لساني، أصبحت كالمشلول، كيف أصحح رؤية هذا البريء لطبيعة الأحداث والعلاقات في مصر، كيف له أن يفهم أن ما يراه هو الشاذ، وأن ما خلد في ذهنه، يخالف طبيعة هذا الشعب الطيب، هذا الشعب الحنون العاطفي، هذا الشعب الذي يلتف فيه الجيران حول جارهم لمجرد أنه أصيب بوعكة برد، أو بضربة شمس، ويظلون يرعونه حتى يعود لطبيعة أعماله، هذا الشعب الذي يتبادل الأطباق في المناسبات وفي غيرها، كيف أرسم في ذهنه الصورة الحقيقية لطبيعة العلاقات بين أفراد هذا الشعب .... حسبي الله ونعم الوكيل. كيف أصحح لابني طبيعة العلاقة بين أفراد هذا الشعب مهما اختلف دينه أو مذهبه، كيف أشرح له أنه عاش في بيتنا ولأكثر من 20 عامًا رجلًا مسيحيًا وزوجته، وما قدر الله لهم من الذرية، دون أن يشعروا بالتمييز بيننا ولو في أدق الخصوصيات، كيف كان يصحو هذا الرجل ليوقد نور السلم لي ولوالدي حينما كنا نزل لصلاة الفجر، اختلاف الدين لم يكن العقبة أمام التآلف والمحبة، بل والمشاركة في الأحزان والأفراح، كيف أشرح له هذه المعاني الجميلة، كيف .. كيف .. كيف حسبي الله ونعم الوكيل. أيها السادة -ولستم بسادة ولكنه أدب الحوار – إنكم تشكلون وجدان جيل قادم – لو لم يتدارك الأمر – سيظل معتقدًا أن المسدس والبندقية والمولوتوف والسكين والسيف هي أدوات التعامل في هذا المجتمع، إنكم ترسخون قاعدة في مكنون هذه الطفولة البرئية بأن الحق – إن كان حقًا – لا يؤخذ إلا بالقوة، إنكم تصنعون الكره في نفوس هذا الجيل، لا سامحكم الله - اتركوا أهواءكم وانظروا لمستقبل مصر، دعوا مطامعكم واعلموا أنكم لا تؤثرون في حاضركم بالتخريب والدمار فقط؛ بل تؤثرون في مستقبلكم بإيجاد جيل جديد مشوه الفكر مضطرب المشاعر. لكم أن تحققوا أهدافكم النبيلة بالطرق النبيلة، لستم في ساحة حرب، أنتم في ساحة خلاف سياسي والخلاف السياسي الوصول للحلول فيه ليس بأدوات الحرب والتخريب، هناك حلول كثيرة سياسية وأدوات ديمقراطية، تغلقون أعينكم عنها عمدا لا أدري لماذا .. لا إجابة عندي سوى المطامع والأحقاد.. جنبونا من فضلكم مطامعكم وأحقادكم.. واتركونا نبذل جهدًا للرقي بوطننا لا لنبذل جهدا لنعدل مسارات تفكير أبنائنا، لنبذل جهدًا لتتغير لوحة الرسم، وتقدم الوجه المشرق لبلادنا. د. خلف الديب عثمان محمد – كلية التربية جامعة الأزهر بالقاهرة