عندما زرته في بيته في العاصمة القطرية الدوحة قبل سنوات ، بدعوة كريمة منه ، فوجئت بي أمام شخص بسيط للغاية وبالغ الرقة والوداعة وشديد التواضع ، ثم عندما جرى الحديث في المجلس في بعض قضايا العلم والمعرفة والفكر وجدتني أمام بحر من الثقافة الواسعة واكتمال الوعي بالتاريخ وأصالة علمية جلية في استحضار الأدلة خلال الكلام بسهولة ، وتعجبت أن يكون هذا العالم الجليل هو ابن من أبناء مصر البررة ، دون أن يعرفه معظم الأجيال المصرية الجديدة حتى تلك المشتغلة بالثقافة والفكر والمعرفة ، إنه العلامة والمحقق الكبير الدكتور عبد العظيم الديب ، الذي أفضى إلى ربه ورحابه ، رحاب العدل والرحمة ، أمس الأربعاء حيث فاضت روحه الطاهرة وصلى عليه رفاقه وتلاميذه ثم دفن هناك في الدوحة ، غريبا عن بلاده عاش وغريبا مات وغريبا يدفن ، عبد العظيم الديب واحد من رموز علمية ودينية مصرية كبيرة اضطرها ضيق الأفق السياسي والأمني في بلادها إلى الهجرة إلى دول الخليج ، بحثا عن الأمن وعن الرزق وعن الكرامة أيضا ، وكثيرون منهم ماتوا ودفنوا هناك ، ولو كنا في دولة تحترم مكانتها وسمعتها وتحفظ لمواطنيها كرامتهم أو على الأقل النابغين الأفذاذ من أبنائها ، لما كان هذا الحال الكئيب لمقابر "المصريين" في الدوحة والكويت غيرها من عواصم الخليج ، لم تضق قرى طنطا التي ولد ونشأ وتعلم فيها عبد العظيم الديب حتى يضطر ابنها للبحث له عن قبر في عاصمة قطر ، ولكن في عصر إهدار كرامة الوطن كله بمؤسساته وناسه وتوسيد الأمور إلى غير أهلها ، يصعب أن تتذكر هموما مثل هذه ، عبد العظيم الديب لم يرتكب جريمة ولم ينهب أموال البنوك حتى ولم يزاحم أهل التجبر والاستبداد على برلمان ولا حزب ، لأنه كان متفرغا للعلم مهموما بتراث المسلمين الكبير ، يجوب الأرض ويبعث رسائله وينفق ماله من أجل أن يحصل على مخطوطات من عواصم الدنيا حتى يهدي الأجيال الجديد دررا لم يكونوا ليحصلوا عليها بدون هذا الجهد الرهيب ، هل يتصور أحد أن يعكف رجل واحد على جمع وتحقيق موسوعة علمية ضخمة تبعثرت أجزاؤها ومجلداتها في بلاد كثيرة من القاهرة إلى دمشق إلى اسطنبول إلى فاس إلى غيرها ، لكي يضم شتاتها ، ثم يعكف على سبرها وتحقيقها ثم ضبطها ثم إخراجها خلقا آخر ، ليس كتابا من مائة أو مائتي صفحة ، ولكنها موسوعة من أربعة وأربعين مجلدا ، بلغت عدد صفحاتها قرابة أحد عشر ألف صفحة من القطع الكبير ، هذا إنجاز وحيد من إنجازات العلامة الكبير عبد العظيم الديب ، مع موسوعة "نهاية المطلب في دراية المذهب" لإمام الحرمين الجويني ، ولم يقف أمام هذا العمل أحد من أهل العلم والراسخين في التحقيق إلا أذهله الجهد المبذول فيه ، ولتقريب حجم هذا الجهد الذي استغرق عشرين عاما من عمره وسهره وجهده ، فإن ما قدمه في الموسوعة كان يكفيه لتأليف ضعف عدد مجلداتها كتبا في قضايا العلم والفكر والتاريخ والمعرفة ، ناهيك عن تحقيقه لكتب أخرى للإمام الجويني مثل "غياث الأمم" أهم وأخطر ما ألفه السابقون في الفكر السياسي الإسلامي ، وكتب أخرى ألفها هو في الفقه وأصوله حيث كان تخصصه ، وكذلك في التاريخ حيث كان راسخ القدم في الإحاطة به والوعي بسننه ، ولقد استغرقه العلم فلم يشغل باله بالشهرة أو النفوذ أو المناصب ، رغم أنه أكثر رسوخا وعمقا في العلم والدين من معظم من يتبوأون صدارة المشهد الآن ، ولكن الراحل الكريم كان عفيف النفس ، مدركا لقدسية رسالته ، فرفض أن يكون قلمه أو علمه مداسا للمستكبرين ، يرحمه الله . [email protected]