شهِدت الأردن خلال الأيام الأخيرة تغييرات واسعة شملت حلّ البرلمان (بعد مرور عامين فقط على الانتخابات النيابية السابقة) واستِقالة الحكومة وتغييرات في المواقع العليا، التي من المتوقّع أن تستمِر خلال الأيام القريبة المقبلة. المعلومات الواردة من مطبخ القرار تشي بأن ما يحدُث هو جزء من عملية المراجعة الواسِعة التي يقوم بها العاهل الأردني، بعد مرور عشر سنوات على تولِّيه الحكم، وبعد تقييم واسع ونقدي لتلك المرحلة وما تخلّلها من تطوّرات سياسية وبرامج اقتصادية. تلك القراءة تغلغلت في كتاب التكليف الملكي للحكومة الجديدة إذ اتّسم، على غير العادة، بروح نقدية تُجاه العديد من السياسات والممارسات الحكومية السابقة وتحديد وجْهة الحكومة في المرحلة المقبلة وأولوياتها. نقد المرحلة السابقة وترتيب البيت الداخلي حلّ البرلمان كان مفتاحاً رئيسياً للتخلّص من ذيول المرحلة السابقة، ولقي القرار الملكي ترحيباً كبيراً من أوساط شعبية ونُخبوية واسعة، ذلك أن البرلمان المنحلّ كان موضِع نقد إعلامي وسياسي شرِس، إذ جاء بانتخابات شهِدت انتهاكات واسعة، تحدّث عنها المركز الوطني لحقوق الإنسان، وقد شملت تدخلات كبيرة من الحكومة، لإفشال المعارضة وإنجاح نواب موالين لها ومؤيِّدين لسياساتها. مشكلة البرلمان السابق، أنه جاء في سِياق مرحلة كسْر عظم بين مراكز القرار، وبقي عِبءً على الدولة والنظام السياسي عندما قام الملك بتغييرات سابقة، شمِلت المواقع العليا بالدولة التي دخلت في الصراع والتنافُس، وأعاد ترتيب البيت الداخلي من خلال حشر مهمّة المخابرات العامة بالبُعد الأمني وعدم التدخل في الشأن السياسي، في مقابل اقتصار عمل الدِّيوان الملكي على القضايا التي تخُص الملك شخصياً، بعد مرحلة شهِدت توغلا كبيراً لتلك المؤسسات على دوْر الحكومة والمؤسسات الدستورية. في كتاب التكليف الملكي للحكومة الجديدة أولويات واضحة وملامح التوجّه الحكومي الجديد وبوْصلة السياسات الرسمية، وقد طلب الملك بوضوح من رئيس الحكومة الجديد إجراء الانتخابات النيابية قبل الربع الأخير من السنة المقبلة، وهو بذلك يقطع الطريق أمام الإشاعات التي تحدّثت عن تأجيل الانتخابات النيابية لمدّة عاميْن كاملين. الليبرالية الوطنية.. سياسياً واقتصادياً الملمح الرئيس لطبيعة التغييرات التي شمِلت الحكومة وجزء من المناصب الرسمية ومواقع رئيسية في مؤسسات رسمية، أنّ هنالك ردّ اعتبار لِما يُسمّى بالاتجاه الوطني الليبرالي، في مقابل المدرسة الليبرالية الاقتصادية التي قادت المساريْن، السياسي والاقتصادي، خلال السنوات الأخيرة وأدخلت المشهد السياسي في صِدامات وصراعات داخلية، أضرّت كثيراً بالعلاقة بين الدولة والمجتمع. الوِجهة الليبرالية الوطنية قد لا تبدو بوضوح على شخصية رئيس الوزراء، سمير الرفاعي، وهو ابن وحفيد رئيس وزراء سابقيْن، وعائلة معروفة بعراقة علاقتها بالدولة، وإن لم يُعرف له انخراط سابق في العمل السياسي، باستثناء تولِّيه موقع وزير البلاط في الديوان الملكي سابقاً. الفريق الاقتصادي بقيادة نائب رئيس الوزراء، رجائي المعشر (اقتصادي- سياسي أردني عريق، مالك صحيفة العرب اليوم اليسارية المعارضة)، والدكتور محمد أبو حمور، ومعهم معن نسور، مستشار الرئيس، ذو الخلفية الاقتصادية، جميعهم ينتمون إلى مدرسة اقتصادية لها ملاحظاتها المعروفة ضدّ البرنامج الاقتصادي الحالي الذي يتبع الوصفات الدولية ويقود الاقتصاد بروح مخاصِمة للقطاع العام وأقرب إلى منطِق الشركات، بلا مراعاة للعوامل الاجتماعية والاقتصادية، خاصة ما يتعلق بالطبقة الوسطى. الفريق الجديد جاء انعكاساً لمطالب اتِّجاه واسع في الرأي العام الأردني، له ملاحظات نقدية واسعة على البرنامج الاقتصادي الذي شهِد خلطاً بين "البزنس" والسياسة، ما سمح المجال لمداخل واسعة من الفساد وشبكة حماية سياسية لشركات خاصة، بالإضافة لتحجيم دور الحكومة وصلاحياتها مقابل تدخلات خلفية وبينية، ونفوذ وقرارات كانت تصمّم جميعها من خلال النّخبة الاقتصادية الليبرالية السابقة، التي كانت تُهيْمن على مطبخ القرار الاقتصادي في الظل. بالرغم من ذلك، فإن مهمّة الفريق الاقتصادي، الذي يحظى بقبول شعبي ومِصداقية ومشهود له بالبُعد عن الفساد والمصالح الشخصية، لا تبدو سهلة، بل هي في غاية الصعوبة ومضطر للقيام بقرارات غير شعبية، مع ضعف القُدرة على المناورة. فعلى صعيد الموازنة العامة، هنالك عجْز يصل إلى مليار ونصف المليار دينار أردني، مع وصول الدَّيْن إلى درجة حرِجة تصل إلى 59% من الناتج الإجمالي، أي بفارق 1% من مستوى الخطر العالمي المعروف، وهو ما يذكِّر الحكومة باحتجاجات اجتماعية سابقة حدثت عندما بلغ عجْز الموازنة والدَّيْن، مستويات مماثلة خلال مراحل سابقة. يؤيِّد القراءة السابقة، د. إبراهيم سيف، الخبير الاقتصادي الأردني بتصريح خاص ل swissinfo.ch، إذ يرى أن أهمّ ما يميِّز الفريق الاقتصادي الحالي، وجود انسجام ووِحدة مرجعِية له، تتمثل في رأس الفريق ونائب رئيس الوزراء رجائي المعشر، وهو من أصحاب رأس المال الوطني ومن دُعاة الليبرالية الوطنية وتوزيع منافع التنمية الاقتصادية ومُراعاة الطبقة الوسطى، بخلاف المرحلة السابقة، التي شهدت صراعاً وتعدّداً في المرجعيات الاقتصادية وتضارُباً بين الرُّؤى. الإصلاح السياسي والضغوط الخارجية الملمح البارز الآخر في الفريق الحكومي، يتمثل ببقاء وزيريْ الداخلية والتنمية السياسية، وهُما شخصيتان لم تكونا ترُوقان لسِفارات غربية ولا لنُخب سياسية، رأت فيهما فريقاً محافِظاً يرفض دعاوى "المحاصصة السياسية"، التي تُنادي بها أوساط غربية وتحظى بتأييد نُخبة من الإعلاميين والسياسيين، الذين يطالبون بتغيير قانون الانتخاب في البرلمان وتركيبة المواقع العليا في الدولة، لمصلحة "الأردنيين من أصل فلسطيني". الفريق السياسي ستُعهد له مسؤولية إعداد قانون انتخاب جديد وإجراء انتخابات للامركزية (تشمل مجالس محلية لمحافظات المملكة)، وكذلك الانتخابات النيابية في العام المقبل. الحملة الإعلامية والسياسية التي تعرّض لها الفريق السياسي، تنسب إليه مواقِف محافظة تُجاه مشروع الإصلاح السياسي وقانون الانتخاب، وتحديداً رفضه أي تغيير هيكلي في مجلس النواب، يمنح الأفضلية للأردنيين من أصول فلسطينية. مؤيدو المطبخ السياسي الحالي، يؤكِّدون أن وجوده بمثابة رسالة سياسية واضحة من أعلى مستوى، على رفض صاحب القرار أي ضغوط أو تدخلات خارجية تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وملف التوطين في الأردن، قبل حسْم قضايا الحل النهائي في المفاوضات مع إسرائيل. يفك الاشتباك بين في تضارُب المواقف من الحكومة، المحلل السياسي المعروف، فهد الخيطان بتصريح خاص ل swissinfo.ch، بالقول أن "هذه الحكومة تتّسم بالليبرالية الوطنية في الجانب الاقتصادي، إذ تأتي لتصحيح المسار وإصلاح الخلل الذي خلَّفته السياسات النيوليبرالية الاقتصادية السابقة، وذلك بردِّ الاعتبار للقضية الاجتماعية". إلا أنّ الملمح الأبرز في الجانب السياسي، يتمثل بالطابع المحافِظ، إذ من الواضح أن الحكومة الحالية لن تحدث أي قفزات حقيقية في برنامج الإصلاح، لكنها ستضمن على الأقل إجراء انتخابات نيابية نزيهة، لا تشهد تزويراً وتلاعباً كبيراً، كما حصل في الانتخابات السابقة التي شوّهت صورة الأردن. المصدر: سويس انفو