والله إنه لتضيق نفسي من كتابة هذه المقالات التي تقصد إلى الرد على أولئك "الإصلاحيين" المزعومين الذين ينشرون سمومهم بلا كلل على صفحات المجلات التي ترضى بنشر هذا الخراب والدعاية له، بدلا من صرف الجهد والوقت في محاولة إنشاء تصور عمليّ للخروج من الأزمة التاريخية التي نحن – المسلمين – بصددها. لكن لمّا كان أحد أغراض هذا الدين الكريم هو تمييز الخبيث من الطيب" حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب" آل عمران، وبيان طريق الصالحين من طريق المجرمين" "وَلتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" الأنعام، لم نجد مندوحة من أن نظل وراء تلك القوى العلمانية المتسترة وراء إسم الإسلام من ناحية، وسمت التحضر والفكر وشكل الليبرالية والديموقراطية من ناحية أخرى وهي عارية عنها جميعاً، إسلاماً، وفكراً وتحضراً. فقد نشر الباحث التونسي منصف المرزوقي مقالا بعنوان "لا حلّ في "الإسلام هو الحلّ"! والمقال يُقرؤ من عنوانه، والكاتب لم يكن منصفاً في شيئ مما كتب إلا فيما ذكر في أول مقاله أنه لن يشترى شعبية رخيصة – أي رضاء المسلمين – بالتخلي عن مسؤوليته – أي في بيان أنّ الإسلام ليس فيه حلّ لما يعاني المسلمون منه!؟ والرجل قد بنى رأيه الخائب على التمييز بين الإسلام كدين يتعلق بالناحية الروحية وبين الإسلام السياسيّ الذي يرى أنّ الجماعات الإسلامية تتخذه ستاراً لأغراضها مع التأكيد على عدم قدرته على مواجهة التحديات التي تواجهها البشرية في هذا العصر!، وبين الإسلام الروحيّ الذي محله القلب والروح، ونتساءل إن لم يكن هذا هو الإلحاد في دين الله فكيف يكون إذن الإلحاد في دين الله؟ ويقرر الرجل أنّ العالم يواجه أربعة محاور من المشكلات ليس في مقدور الإسلام أن يوجّه فيها البشرية أو أن يقودها في ضباب هذه المعميات، بناءاً على فهمه القاصر للإسلام، هذه المحاور هي: الأخطار البيئية، والأوضاع الإقتصادية، والدكتاتورية السياسية، والإنحطاط الإجتماعيّ والخلقيّ. ويذهب الرجل إلى أنّ الإسلام، وحده، غير قادر على مواجهة هذه المشكلات التي أصبحت أكثر تعقيداً وتراكباً من أن يواجهها وحده دون أن يتعاون مع اللادينية بكافة أطيافها في توافق وطنيّ براجماتيّ، يترك الدين خارج منظومة الحياة العملية ليقبع في إطار الروحانية والتوجيه الخلقيّ لا أكثر ولا أقلّ. الرجل لا يرى إسلاماً شاملاً لمناحي الحياة كما أراده الله سبحانه، بل يرى إسلاماً قاصراً محدداً بقدر من التوجيهات الروحية. الإسلام عند أمثال هذا الرجل ليس فيه إلا اقوال فقهية بسيطة نمت في واقع عالميّ مبسط، لا ترقى للتصدى إلى تلك المشاكل العالمية المعقدة التي يعانيها عصرنا. هذه خلاصة ما ذكره الرجل في مقاله الذي يمثل فكر العلمانية الصريحة أوضح وأجرأ كثيراً مما هي في خطاب صديق دربه – كما أسماه – راشد الغنوشي.. والمسألة أن هذا الرجل – وأمثاله – لم يؤمنوا بالإسلام الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لم يدرسوا الإسلام دراسة مؤمن متّبع، مستوعب لأولياته ومبادئه، ولجزئياته وكلياته، وبل دراسة ناقد مهزوم مُحنق، إغتر بما عليه الغرب وتشعبت عليه طرقه واختصمت في عقله مناهجه، فلم يعد يميّز بين المشكلة والحل، وعميت بصيرته عن الفرق بين السبب والمسبب. فكان أن إقترح أن تتلاقى المناهج المتضادة، وتتقارب المبادئ المختلفة لتجد حلاً لمشكلات هي أصلاً الأساس في ظهورها وإيجادها! تلك هي عقلانية هذا الرجل وأمثاله! ولنتحدث عن محاوره الأربعة، الكارثة البيئية، من المسؤول عنها غير النظام الديموقراطيّ الرأسماليّ من ناحية والنظام الشيوعيّ الديكتاتورى من ناحية أخرى، أوجداه باللامبالاة والإستهتار الصناعيّ ثم رفضا أن يتفقا على حلّه كما رأينا في مؤتمر كوبنهاجن الأخير. ويتساءل الرجل بكل سذاجة وغفلة، كيف سيحلّ الإسلام هذه المعضلة؟! الإسلام لم يكن له يد في صنعها أولا، وليس له يد في إستمرارها ثانياً. ثم إنه لو تُرك الإسلام بشموليته وعدله وحفاظه على البشرية وصالحها ليتمكن في الأرض بأيد مؤمنة به لكان في رعاية المصالح العامة وتقديمها على الخاصة – لا بتغطية الرؤوس التي سخر بها الرجل على أنها الحلّ الذي يقدمه الإسلام لكل المشكلات! - ما يكفل حلولا تدريجية لإيقاف هذا النزيف البيئي المروّع. ثم الكارثة الإقتصادية، والعجب كلّ العجب من هذا الرجل الذي يطلب العون على حلّ مشكلتها من أرباب الربا الذين أوقعوا العالم كله فريسة لنهمهم، وآخر شرورهم ما رأيناه، ولا يزال العالم يعاني منه، من الأزمة الإئتمانية الربوية! الربا الذي صنعته يهود وغمست فيه العالم المسيحيّ كله لتستنزف ثرواته وتستعبد بشره وهم في لهوهم يعمهون، وهو ما أدركه هنلر بعد الحرب العالمية الأولى، ثم لتدور على العالم الإسلاميّ فتبتلعه بما فيه من ثروات فتبدأ بزرع إسرائيل ثم القوى الإستعمارية العسكرية في العراق وغيرها من بلاد العرب والإسلام. كلّ ذلك خدمة للنظام الربويّ. فقل لي بالله عليك يا شاطر الشطار: كيف يتعاون المسلمون في إزالة نظام ثَبُت فشله وخرابه مع هؤلاء "الليبراليين الديموقراطيين الرأسماليين"، الذين هم صانعوه وحماة معابده وبنوكه ؟ أليس هذا الخبال أوغل في الخيال من أن نفترض – بل أن نسعى إلى نظام إسلامي يقوم بالإنتقال التدريجيّ، الذي هو سمة الإسلام في التغيير – لا بين يوم وليلة كما زعم هذا الرجل غفلة وحنقاً – ليحلّ محل النظام الربويّ البشع. ثم النظم الديكتاتورية الحاكمة، أليس هو معلوم للقاصى والداني أنّ الدول الغربية "الرأسمالية الديموقراطية" هي التي تعين هذه النظم الحاكمة على البقاء، وتساند سدنتها وأئمتها؟ ثم في الوقت نفسه، هي التي تموّل الليبراليين والعلمانيين في بلادنا ليكونوا سداً مانعاً ليس لإسقاط هذه النظم، بل للوقوف في وجه المدّ الإسلاميّ الذي يقول الرجل أنه يجب أن يضع كفه في كفهم للقضاء على هذه الديكتاتوريات؟ خلطٌٌ عجيب وزخرفُ قولٍ ساذج مريب. وأخيراً، التدهور الأخلاقيّ والفساد الإداريّ الناشئ عنه، ولا يجادل أحد في أن القيم الإسلامية هي أقدر القيم وأفضلها على وجه الأرض لأنها صادرة عن خالق الإنسان والعالم به "ألا يَعْلَمُ من خَلَقْ" تبارك. أليس ناشروا الفساد ودعاته ومرتشوه هم بالمقام الأول من القائمين على الإعلام الفاسد والدعايات التغريبية والقضاء على اللغة العربية وسائر وسائل تغريب المجتمع وفقدانه لهويته وذاته! ونختم بتلك المغالطة الخبيثة التي يقررها الرجل حيث يقول "ما أغرب أن نرى الإسلام الذي حكم على الملوك أنهم لا يدخلون قرية إلا وأفسدوها ركيزة حكم كم من ملك فاسد، وهذا منذ أربعة عشر قرنا"! خلط وخبط وإيغال في العداء للإسلام. الرجل يقول: إن الإسلام الذي قرر سببية الملوك للفساد، كان هو ما إتخذته هذه الملوك ركيزة وسبباً لهذا الفساد منذ ظهور الإسلام! أي أنه لمنع الفساد يجب أن نترك الإسلام ولا نتبعه لنفوت على الملوك فرصة الفساد والإفساد! عجب من العجب واللغط المنطقيّ. هذا مثال آخر لما ينشره اصحاب هذا الإتجاه من المعادين للإسلام باطناَ والمنتسبين له ظاهراَ، ولا يغرنكم بعض قولهم عن عظمة الإسلام وأنه "لا، الإسلام ليس الحلّ.. هو الدعامة الروحية للوصول إليه" كما قال هذا الرجل في ختام خلطه، فهذا جرم على جرم وخيبة على خيبة، وقد خاب من إفترى. [email protected]