يسميه البعض ( التدين الشكلي ) الذي يهتم بالمظهر علي حساب الجوهر ، ويركز في تفاصيل ظاهرة أكثر من الباطنة ، ويسميه آخرون ( التدين الشعبي ) لأنه يجتذب البسطاء من الناس ولا يقتصر علي المثقفين ، وأطلقت أيضا أوصاف أخري مثل ( التيار الوافد ) و ( موجة التدين ) وكثير من الأسماء التي تعني كلها نفس المسمي ، والتي تبحث بمختلف الطرق عن الأسباب والدوافع . توجه إليه بعض الاتهامات مثل : عدم مطابقة السلوك الظاهر من حجاب ولحية وإقبال علي ممارسة الشعائر الدينية مع ما نلمسه عند التعامل من سلوكيات مناقضة مثل الرشوة والغش والكذب وغيرها ، اتهام آخر سببه انتشار بعض المفاهيم غير الصحيحة والتي يتم ترويجها استنادا لأحاديث موضوعة أو آراء فقهية مرجوحة وشاذة ورغم محدودية ذلك إلا أنه يتم تضخيمه والاستناد عليه لإلصاق وصف (ثقافة الخرافة) بالأمر كله ، واتهام آخر أنها ثقافة وافدة من دول أخري وتقليد لماهو سائد في دول الخليج وخاصة السعودية . انتشار التدين في مصر هي حقيقة واضحة ، أما الاتهامات فكلها مردود عليها وربما الاتهام الأول فقط هو ما يستحق عناء الرد ، ذلك لأن الانتشار الواسع لابد أن يصاحبه مخالفات وأخطاء وكل بني آدم خطاء ، كما أن الإسلام دين واقعي لا يفترض في الناس التبتل والانقطاع عن تيار الحياة ويراعي طبيعتهم البشرية ويعاقب المخالف بعقوبات معروفة دون أن يخرجه ذلك الخطأ من الملة . كما أنه بكل تأكيد فإن الهدي الظاهر يؤثر بشدة في الباطن ويهذب السلوك ويثري الوجدان والفارق واضح وملحوظ عند التعامل مع المتدين وغيره ، مهما كانت هناك حالات فردية تعد نماذج سيئة إلا أن الغالبية العظمي مازالت بخير . يأتي السؤال الأهم والأبرز : ماذا فعل التدين للمصريين ؟ في ظل تردي الأوضاع المعيشية والمجتمعية ، وانتشار الفقر والبطالة والعنوسة ، وتوحش الفساد وتغلغله في كل القطاعات ، لم يكن أمام الناس إلا خيارين إما الاستسلام للواقع والانحدار معه إلي مهاوي الانحلال الكامل والجريمة والمخدرات أو البحث عن طوق نجاة يتعلقون به وينجيهم من الغرق وهم محشورون في سفينة تصارع أمواجا عاتية ، فكان التمسك بالدين والعودة إليه هو طوق النجاة الوحيد المتاح أمام الجميع ، وكان بيت الله هو الباب المفتوح أمامهم بغير تمييز، وكانت العودة للنبع الصافي للإسلام هو نقطة الضوء في الظلام ، وواحة الراحة والأمان في هجير عالم صراعي متوحش . ماذا فعل التدين للمصريين ؟ الحجاب من الناحية الرمزية هو دعوة للعفاف والستر وإقامة بيت مسلم دون مغالاة ، والمشايخ الأفاضل هم قادة الرأي الذين انتخبهم الشعب وأجمع عليهم ومنحوهم ثقتهم ليوجهونهم و يسيرون وراءهم ، الفرح الإسلامي البسيط والزي الإسلامي غير المكلف وتعاون أسرتي الشاب والفتاة في تأسيس بيت العروسين وسيلة لتيسير الزواج ، تقدير التزام الشاب أو الفتاة عند الزواج والعامل عند إسناد عمل له والجار عند إعطاؤه شقة وغير ذلك من المعاملات هي وسيلة جديدة لتقييم الناس وفرزهم وتحديد الموقف منهم تعتمد علي المعنوي وغير المادي بعيدا عن تقييم الناس فقط علي أساس ما يملكون من حطام الدنيا . ماذا فعل التدين للمصريين ؟ كان بمثابة عقد اجتماعي جديد يربط بينهم ، وثورة ناعمة علي التقاليد والأعراف البالية ، واختيار ثقافي حر لشكل وأسلوب التعامل بين الناس ، وحكومة شعبية موازية تتحاكم لما آمنت به بعيدا عن بيروقراطية الحكومة الرسمية . ماذا فعل التدين للمصريين ؟ أسهم في حل جزء من مشكلاتهم الاقتصادية بالجهود الذاتية ، الصدقات والتبرعات والنفقة لوجه الله علي الفقراء والمحتاجين أدت لحماية قطاع من الفقراء من الوقوع تحت الخط ليدهسهم الفقر بعجلاته القاسية ، وأدت لتماسك الطبقة الوسطي الدنيا تحديدا . سوف يندهش أمهر خبراء الاقتصاد العالميين عندما يعرفون كيف يحل بسطاء المصريين مشكلتهم الاقتصادية بجهدهم الخاص رغم انخفاض الأجور وقلة فرص العمل إلا أنهم يعيشون ويأكلون ويتزوجون و تسير بهم الحياة بسبب أولا استعانتهم بالله وثانيا عبقريتهم الفطرية الخاصة التي تجعل كل شخص يبتدع لنفسه فرصة عمل لاتخطر ببال . التدين هو سفينة نوح التي لجأ إليها المصريون للنجاة في الدنيا والآخرة ، وهو الخيار الفطري الذي اندفع الناس إليه بغير دعاية ولا انتخابات ، وهو الهوية المفقودة التي عثروا عليها ، وهو طوق النجاة أولا و أخيرا .