تخيل أن هناك من رجال الأعمال من يحمل هم الوطن، ويسخر كل إمكانياته من أجل التنمية ومكافحة الفقر والقضاء على البطالة، بالإضافة إلى غرس القيم في الشباب وزيادة ولائهم للبلاد. أعرف أن ما أطلب منك تخيله يبدو حلمًا صعب المنال، فقد أصبحت الصورة السائدة للكثير من رجال الأعمال ترتبط بالفساد والاحتكار والبحث عن المصلحة الشخصية أولاً، وهو ما أصبح يركز عليه الإعلام حاليًا بهدف نبيل.. وهو كشف الفساد، ولكن على الجانب الآخر فقد أدى التركيز على السلبيات إلى إصابة الكثيرين بحالة من الإحباط واليأس من رؤية النماذج الصالحة، ولكني اليوم أزف لكم البشرى بأن النصف الممتلئ من الكوب في عالمنا العربي يتضمن الكثير من الأسماء المحترمة من رجال الأعمال الذين ساهموا بصدق في بناء مجتمعاتهم وتنمية أوطانهم. لو كان بيدي لمنحته جائزة نوبل في الاقتصاد، فقد استطاع أن يؤسس للعمل الخيري ويجعله ممتدًا بطريقة اقتصادية فريدة تجسد فكرة التنمية المستدامة، بعيدًا عن الشكل النمطي المتمثل في تقديم الصدقات فقط، وبالتالي فقد خرج من إطار عالم "البيزنس" إلى المساهمة الحقيقية في بناء الوطن من خلال مكافحة الفقر وتوظيف الشباب والتنمية الاجتماعية والصحية، بل وتعدى تأثيره إلى العديد من الدول العربية والإسلامية، يكفي أن تعرف بأنه استطاع من خلال أحد برامجه ال25 الهادفة لتنمية المجتمع من توظيف ما يزيد عن 110 ألف شاب حتى الآن. بدأ "عبد اللطيف جميل" حياته بداية بسيطة في مجال التجارة في العام 1945 ولكنه استطاع في فترة بسيطة أن يوسع من أنشطته فتحصل على توكيل سيارات "تويوتا" في السعودية، ووسعت الشركة أعمالها فيما بعد لتشمل عددًا من الدول الأخرى، مما أهلها لتصبح أكبر موزع مستقل لسيارات تويوتا في العالم، وبالتالي فقد زاد عدد الشركات في المؤسسة عن 14 شركة في مجالات مختلفة. ولأنه يدرك معنى المسؤولية الاجتماعية وواجبه تجاه وطنه فقد عمل على ترسيخ هذا المفهوم منذ تأسيس أولى شركاته، وبعد رحيله سار أبناؤه من بعده في نفس الطريق، من خلال تأسيس برامج عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع، حيث ركزت البرامج في البداية على حل أكبر المشكلات التي تواجه المجتمع السعودي وهي مشكلة البطالة، ومن أجل ذلك كان برنامج "باب رزق جميل" للتنمية، الذي أصبح أهم مصادر توفير فرص العمل للشباب السعودي، وتغيير الصورة النمطية السائدة تجاه المهن والحرف اليدوية، كما أصبح عنوانًا للمكان الذي يلتقي فيه الشباب مع أصحاب العمل للحصول على فرص عمل مميزة، يأتي هذا البرنامج ليقدم من خلال صندوق دعم المشاريع الصغيرة قروضًا حسنة تصل إلى 150 ألف ريال للمشروع بدون أي فوائد، ولأن القائمين على البرنامج يدركون أن أكبر المشكلات التي تواجه الشباب في أي مشروع هي تسويق المنتجات، فقد تم افتتاح عدة فروع من سلسلة معارض " بأيدينا "، التي تهدف إلى إتاحة الفرصة لأصحاب المشاريع الصغيرة- ولاسيما الفتيات- لإيجاد مكان ملائم من كافة النواحي التسويقية لعرض منتجاتهم للجمهور. بالإضافة إلى ذلك فقد أتاح "باب رزق جميل" الفرصة لتأهيل الشباب الراغب في تعلم الحرف والمهن المختلفة، فتم تأسيس صندوق عبد اللطيف للتأهيل المهني والحرفي بتمويل يصل إلى 100 مليون ريال، ومن خلاله تم إنشاء عدة معاهد متخصصة تساهم في توفير كوادر مهنية وحرفية متخصصة أهمها أكاديمية الفنون والحرف التي تحمل اسم السيدة "نفيسة شمس" زوجة الراحل "عبد اللطيف جميل". المدهش أن نشاط مؤسسات "عبد اللطيف جميل" لا تنحصر فقط في مجال توفير فرص العمل فقد توسعت لتشمل جميع جوانب التنمية في المجتمع من خلال برامج أخرى على المستوى الصحي والاجتماعي، فهناك مستشفى عبد اللطيف جميل الخيري للتأهيل والرعاية، وبرنامج (تنوير) للأيتام المتفوقين، وبرنامج سلامة الطرق، بالإضافة إلى برنامج (القدوة الحسنة) الإعلاني الذي يمكنك مشاهدة أفلامه على مختلف القنوات الفضائية، حيث تم تقديم 24 إعلان مختلف يهدف إلى نشر المفاهيم الحسنة بين أفراد المجتمع. ولأن طموحات المؤسسة في مجال العمل الخيري ليس لها حدود فقد توسعت أنشطتها لتشمل مجموعة من البلاد العربية والإسلامية التي اهتمت بنقل التجربة فيها، كان آخرها تركيا التي حرص رئيسها "عبد الله جول" شخصيًا على نقل نشاط البرامج إليها، كما يأتي على رأس الأنشطة الدولية "معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر" في معهد "ماساشوستس" للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، وهي تجسد الرؤية الاحترافية حتى في مجال العمل الخيري، فالمعهد يسعى إلى تخفيف حدة الفقر في جميع أنحاء العالم من خلال ضمان استخدام العلم والتكنولوجيا والأبحاث، كما يستخدم مفهوم التجارب العشوائية المطبق في المجال الطبي لتقييم أكثر الطرق فعالية في تحسين حياة الفقراء ومواجهة القضايا التي تشمل صحة الأطفال وتمكين النساء وتحسين إنتاجية أصحاب الأعمال الصغيرة، من خلال هدف رئيس هو تحسين حياة 100 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم بحلول عام 2013 ، بالإضافة إلى ذلك فقد قامت المؤسسة بتوقيع عدة شراكات مع معهد "غالوب" الأمريكي لإطلاق مؤشر جميل –غالوب لسوق العمل، الذي يرصد ويقيم أوضاع سوق العمل، وكذلك الشراكة مع بنك جرامين (بنك الفقراء) بهدف دعم مؤسسات الإقراض متناهي الصغر، وأخيرًا.. برنامج دعم البحث في العالم العربي، وبرنامج 1001 اختراع إسلامي. لقد ضربت مؤسسة "عبد اللطيف جميل" المثل في الاستفادة من المفهوم الجديد للتنمية القائم على مبادرة القطاع الخاص ودوره المهم داخل المجتمع ، فكانت نموذجاً يحتذى به على مستوى المؤسسات التي لديها رغبة في العمل الأهلي، ومن دون شك فإن النتائج والأرقام تعطي مؤشراً للنجاح الذي تم تحقيقه على كافة المستويات، وهو عمل فيه الكثير من الابتكار والشعور الصادق بالمسئولية الاجتماعية تجاه الإنسان والوطن، وتجاه صناعة التنمية. ويبقى السؤال؟ ماذا لو أن كل الشركات ورجال الأعمال ومؤسسات المجتمع المدني الاقتصادية والتجارية في عالمنا العربي سارت على نهج مؤسسة عبد اللطيف جميل..!؟ أجزم بشكل قاطع أنه لن يبقى لدينا عاطل أو فقير، وسنرى حينها نهضة حقيقية تعم أمتنا العربية والإسلامية. [email protected]