ما زلت أتمنى أن تشهد مصر فى عهدها الجديد ترسيخًا لمبدأ الشفافية فى شؤون الدولة وإجراءاتها وبشكل خاص ما يتعلق بالمال العام لأنه حق كل مواطن وليس حق السلطة أو الوزير أو الخفير، ولذلك تفهمت القلق الواسع الذى ينتاب خبراء الاقتصاد من إجراءات خطيرة تمت مؤخرًا لا نفهم لها أى خلفيات ولا أسباب، رغم غرابتها الشديدة ورغم أنها ملفات تتشابه حرفيًا مع ملفات أخرى، فتتم تسوية هذا الملف تحديدًا بينما يتم رفض تسوية ملفات أخرى متطابقة معه، لماذا سوينا هذا وتجاهلنا ذاك، لا أحد يعرف، وأظن أن واقعة الدكتور رشيد محمد رشيد شديدة الوضوح، فقد سافرت شخصيات اقتصادية عديدة، ليست لها أى صفة رسمية فى الدولة، وقابلت رشيد عدة مرات فى مقر هروبه بالخليج، وبعد ذلك فوجئنا بالإعلان عن تسوية مالية معه تقضى بإسقاط التهم الموجهة إليه والأحكام التى صدرت، مقابل ماذا، لا نعرف، كم هى حجم الأموال التى أهدرها أو التى نهبها أو التى تسبب فى ضياعها على مصر لا نعرف بالضبط، حسنا، وعلى أى أساس تمت التسوية مع رشيد، لا نعرف، كم سيدفع رشيد للدولة من المال المهدور أو المغتصب، لا نعرف، مَن الذى أتم هذه الصفقة مع رشيد وبأى صفة أتمها، لا نعرف، لماذا تم تهميش الأجهزة الرقابية الرسمية عن تلك التسويات، لا نعرف، أيضًا الخبراء يضربون كفًا بكف مما حدث فى ملف أرض العياط، وهو ربما كان الأخطر والأكثر عدوانًا على المال العام، فهذه الأرض فى حكم المغتصبة لأنها أخذت بطريق غير قانونى وبإهدار فادح وفاجر للمال العام، استغلالا للنفوذ والرشاوى أو "العمولات" التى كان يحصل عليها أقطاب بالنظام السابق نظير تخليص آلاف الأفدنة مقابل آلاف الملاليم للدولة، وقضية أرض العياط جرى الحديث فيها مع الرئيس محمد مرسى فى لقاء خاص بالإعلاميين، وكنت حاضرًا وشاهدًا، وقال السيد الرئيس إنَّ الشركة المصرية الكويتية أضاعت على المال العام أكثر من خمسة وأربعين مليار جنيه مصرى، وأنه لن يتراجع عن استرجاع حقوق الوطن فى هذا الملف، وألمح الرئيس ولم يذكر بالأسماء أن المحامين الذين يتولون هذا الملف عن الشركة هم أنفسهم محامو المكتب اليهودى الشهير "بيكر أند ماكينزي" وأحدهم يوصف بأنه مفكر إسلامى، مع الأسف، وظل هذا الملف حبيس الكتمان والصمت، حتى تسربت الأخبار مؤخرًا عن "تسوية" أجرتها جهة غير معروفة، بمقتضاها تدفع الشركة المصرية الكويتية سبعة عشر مليار جنيه فقط لا غير، وتكون الأرض عليها حلالا بلالا، كيف هذا، لا نعرف، وأين تذهب ثمانية وعشرون مليار جنيه من المال العام بقية قيمة الأرض الذى شهد الرئيس نفسه بأنه مهدر على الدولة، لا نعرف، ومن الذين أتموا هذه الصفقة، لا نعرف، وما هى صفتهم الرسمية أو القانونية، لا نعرف، وما صلة مكتب "بيكر أند ماكينزي" بتلك العملية، لا نعرف، وهل تم التحقق من المعلومات المؤكدة عن أن أرض العياط هى أرض آثار، وأن لقضيتها أبعادًا أخرى أكثر خطورة كما رددت مصادر "قضائية"، لا نعرف، وفى المحصلة، من الذى يدير الملف الاقتصادى للدولة الآن، لا نعرف، من الشخصيات المفوضة بالتسويات مع رجال أعمال نظام مبارك ومخلفات الفساد فيه، لا نعرف، وما هى النسبة التى يتقاضاها هذا المكتب "القانوني" أو ذاك والتى تردد أنها تصل إلى 15% من قيمة كل صفقة، لا نعرف،... أتمنى أن تتم هذه التسويات الخطيرة فى النور، وبشفافية تامة، وأن يتم إطلاع الرأى العام أولا بأول على مساراتها وعلى نتائجها، فهذا حق كل مواطن، وحق كل مستثمر شريف، وهذا هو المأمول من أى نظام سياسى أتى بعد ثورة يناير المباركة.