مرة اخرى، يشكّل الإستخدام الملتوى للألفاظ والمصطلحات خلطاً في المفاهيم وإيهاماً بما ليس له من الحق نصيب. ونعنى هذه المرة تعبير "الإصلاح" وفئة "الإصلاحيون" والإتجاه "الإصلاحيّ". ولا أدرى والله ما يعنى هذا المصطلح أو ما تبتغي هذه الفئة ولا ما يهدف اليه هذا الإتجاه. فتعبير "الإصلاح" يعنى بالضرورة وجود إعوجاج وخراب يوجب إصلاحه وتعديله. وبالطبع فإن العديد، إن لم يكن، الغالب الأعم، من أحوال الأمة أصبح فيه إعوجاج وخراب في السياسة والإقتصاد والإجتماع، بل وفي العقيدة فيما وفد عليها من بدع "صوفية" درويشية أو"عقلانية" تخلط ثوابت الدين وطرقه بما هو في نطاق تصريفات العقل، أو"إرجائية" مُفرّطة، أو "خارجية" مُفرِطة، أو رافضية مجوسية باغية. لكن أهل الإصلاح لا يبينون ما المعنيّ بهذه الكلمة! أهم من دعاة الإصلاح العقائدي الذي يقصدون به نفي أحاديث الآحاد وما ورد في الصحاح، وتأويل صفات الله أو نفيها بالكلية، أم هم دعاة إصلاح إجتماعي كتحرير للمراة من ربقة الإسلام وهوان الحجاب كإصلاح قاسم أمين وخير الدين التونسيّ وسيد طنطاوى!، أم هو إصلاح سياسيّ كدعاة الحرية المطلقة مثل الغنوشيّ وغيره؟ هذه المرة، جاء هذا الخلط في مقال محمد مختار الشنقيطيّ، الموسوم " فقر التعصب والتدين اليابس"، المنشور على صفحة الجزيرة1 الإثنين ديسمبر 21، والتي إشتد فيها على السلفيين من كلّ إتجاه، بعد أن قسّمَهم إلى قسمين أساسيين، الملكيين، ويقصد بهم تلك الطائفة التي فضحناها في كتابنا "أدعياء السلفية"2، وهم، حقيقة، أذناب السلطة وحملة الإرجاء العقائدي في هذا العصر من المدخلية الجامية، ثم قسم الفوضوية، التي لم يأت من أوصافها على شئ أكثر من قوله أنها " تسعى إلى تفجير الكون كله أملاً في ميلاد عالم جديد لا تملك تصورا واضحا عن ملامحه"! ولعله يقصد بها السلفية الجهادية، التي على ما نعلم لا تسعى لتدمير الكون كله! على أخطاء في تطبيقاتها. ثم قسم ناشئ وليد يقترب من هيئة الإصلاح وإن لم يكن إصلاحي بعد بما يعنيه الكاتب. والمقال – بإختصار - يقوم على وصف السلفيين من القسمين بأنهم جفاة غلاظ، من ذوى القلوب اليابسة والعقول المتحجرة، عديمى العاطفة شحيحى الدمع، خِلافَ خُلق التعصب، وحب التخلف ومقاومة التقدم. ولا يظهر من قوله إن كانت هذه كذلك هي ملامح القسم الثالث الوليد من السلفيين. والكاتب من "المتنورين" أو "الإصلاحيين" الذين يرون أنه يجب النظر في أحكام الشريعة بالعقل وتحديد ما يتناسب منها مع العصر وطرح ما يتعارض معه، وآراؤه تتماشى مع شذوذات الترابي وليبراليات الغنوشيّ وتغريبات طارق رمضان الذى طالب مؤخراً بوقف حدّ الردة ومنع تطبيق الحدود، وكأنها مطبقة بالفعل!. والعجب هنا هو ما استدل به الباحث في أول فقرات مقاله على جلافة السلفيين وغلظة طباعهم مما ذكره بن عقيل عن حنابلة بغداد خاصة، ومما ذكره الذهبي عن أحدهم من غلظة وشدة يتضح من قول الذهبي أنه لا يقرظها. فكم من فقيه وإمام ورد ذكره في سير أعلام النبلاء وطبقات الحنابلة ممن عُرف بالورع والتقي والبعد عن الخشانة واليبس، وها هي سيرة إمام الحنابلة أحمد تدحض إفتراءات اليبس والرعونة والجفاف عن السلفية – التي نقصد بها الإلتزام بالعقيدة كما وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها أتباعه من أهل القرون الثلاثة الفضلى. الأمر إذن يتعلق بالحنابلة وبإبن حنبل إمام السنة وقاهر البدعة المنتهض لقول خلق القرآن وبدعة الإعتزال، التي هي دين "الإصلاحيين" ومنهج المدرسة "الإصلاحية"، منذ تولى كبرها الأفغاني الإيرانيّ، ومحمد عبده أحمد لطفي السيد وخير الدين التونسيّن والتي أوقف مدّها الشيخ رشيد رضا رحمه الله. ولا نطيل هنا بالحديث عن أوباء المدرسة "الإصلاحية" - بتعريفهم للإصلاح – بل نحيل القارئ على كتابيّ العالم المفكر الجليل محمد محمد حسين، رحمه الله، "نحن والحضارة الغربية" و "الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، ففيهما مثال لما نريد. ومع عدم ارتياحي لإستخدام تعبير "السلفيون"، التي تخالف إصطلاح "أهل السنة والجماعة"، ومع إقراري بما عليه بعض المنتسبين للسلفية ببعض هذه الصفات، لكن دمغ السلفية بهذه النعات والتركيز على الحنابلة بالذات، ومن ورائهم مدرسة بن تيمية وبن القيم وبن رجب، الذين هم من أعلام السلفية ومن أعلام الحنابلة، وهم، على خلاف ما ذكر الباحث، من خشية لله ويسر في المعاملة ورقة في القلب، خطأ عقدي ومنهجيّ لا يبرره إلا الإنحراف عن النهج النبوي ونبذ تَرِكَته التي حملتها لنا أقوالُ صحابته وأفعالهم . نقول إن الإصلاح لو قُصد به العمل بالخُلق الإسلاميّ والحكم بتشريعه وإتباع توجيهاته المدنية والإجتماعية، فهو ما يريده أصحاب السلفية الشرعية من أهل السنة والجماعة، الذين هم الإصلاحيون الحقيقيون، كما قال مالك رحمه الله "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" أى إتباع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهاج صحابته فيما يتعلق بالعقيدة وبالشريعة، وبضرورة الإجتهاد فيما جدّ من مسائل، على منهج أهل السنة من طرق في النظر والإستنباط وإعتبار المصالح المعتبرة شرعاً لا بالهوى والتشهى، وفي إعتبار المقاصد الشرعية وكلياتها بما ليس فيه تعد على جزئيات الشريعة الثابتة في الحديث والسنة. وإن كان الإصلاح هو تعطيل الحدود، وإهمال النصوص والتعدى على الأئمة الأعلام وبث الأفكار التغريبية الهدامة باسم الحداثة والعقلانية والمعاصرة، فلا ولا كرامة. وهم الإصلاح الذي يتباهي به هؤلاء، ويقدمونه للناس على أنه باب التقدم ومفتاح الخلاص، ليس إلا مظهر الإنهزام النفسيّ لما قدّمه الغرب على مائدة التحديث المرادفة للتغريب. وخطورة هذه الدعوات أنها تأتي ممن يجلس من الناس مجالس العلم والتدريس، وتنشر له الكتب وتوزع الشرائط، ويرتدى ثياب العلماء وهم منه براء. والحدود، بل، والشريعة برمتها، ليس بديل السلفية الدعيّة وأدعيائها هو الإصلاح التغريبي الإنهزاميّ الموهوم، كلاهما مرفوض ساقط، بل البديل هو في السلفية الشرعية التي تحتفظ بنقاء التوحيد كما تنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدق خبره الثابت عن صحابته الأبرار بسند صحيح، فإن في ذلك حقيقة حفظ الدين، والتي تبتغي الإصلاح في كلّ مركبات الحياة، إصلاح الإنسان ببناء خُلقه وتوجيه طاقاته، وإصلاح السياسة بالخلاص من التسلط والقهر والديكتاتورية، والرجوع إلى الحرية الملتزمة بحدود الإسلام، وإصلاح الإقتصاد ببناء القاعدة الصناعية اللازمة لحيازة القوة ورباط الخيل اللازمين لإرهاب عدو الله وعدونا. والهوية، التي هاجم الكاتب المحاولة اليائسة التي يحاولها السنيون بشكل عام للحفاظ عليها والتمسك بها، هي ردة فعل للهجمة الإصلاحية التي كادت تمحو هذه الهوية، والتي حذر من فقدها الكثير من العلماء الأوائل حين انفتح العالم الإسلاميّ على الوافد الغربيّ اليونانيّ والوافد الهندى، ذلك الإنفتاح غير المضبوط الذي لم ينشأ عنه إلا إنهزام الدولة الإسلامية العباسية وسقوطها، وهو الإنفتاح الإصلاحي الحديث الذي قادته المدرسة الإصلاحية الماسونية التغريبية فلم تؤدى إلا إلى ما نراه من خراب خلقي وسياسي وثقافي وإجتماعي، والذي أداته هي وسائل الإعلام الفاضحة التي سمحت بكل رذيل وساقط أن يغزو عقول الناس وقلوبهم بلا ضوابط، والذي مهد للسياسة الدكتاتورية أن تنهب البلاد وتذل العباد. الهوية الإسلامية لا تقبل الغزو الثقافي من الغير المخالف للإسلام. الإسلام هو الحضارة وهو التقدم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وإنما هو تبادل المعرفة الدنيوية ووسائل الحياة الحديثة دون إقتراب من تبادل الثقافات أو حدود الحقوق والواجبات التي حسمها الإسلام منذ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. والذات ليست مهزومة فاقدة للثقة كما وصفها الكاتب، بل هي مجروحة مكلومة مصدومة في أبنائها الذين انحرفت بهم الأهواء وتلاعبت بهم البدع فاتبعوا الناعقين من أهل الإصلاح الموهوم كالأفغاني ومحمد عبده ولطفي السيد، وتلامذتهم المحدثين من الطبقة السابعة في سلم المفكرين، والشانئين لأمثال سيد قطب والمودودى وغيرهم. ولينتبه شبابنا وقراؤنا إلى مثل هذه الدعاوى التي يطلقها من إعوجّ فهمه وإنحرف قصده وغشي بصره وإن انتمى إلى العلم زورا وبهتاناً. [email protected]