أكثر ما يستفذني على المسرح السياسي القائم منذ نجاح الثورة، هو طريقة تعامل ساستنا مع بني جلدتهم من المصريين. حيث يتعاملون مع الناس كما لو كانوا قطعًا من الصلصال، يستطيعون صياغتها في أي قالب يريدون. تارة يشكلونها قطعًا سلبية مستكينة، لا تقدم ولا تؤخر. وتارة يريدونها ثورية، تقتلع كل رموز الفساد والمفسدين. وتارة مجهلة مغيبة، تبغي التصالح مع القتلة والمجرمين واللصوص. وتارة جائعة متسولة، تتخلى عن شرفها من أجل لقمة العيش. ترى ما الفائدة التي تعود على ساستنا الأشاوس من إبقاء مواطنيهم دمى، لا يملكون من أمرهم شيئًا؟ وما الفائدة التي تعود على البلاد من هذه الصياغة المستمرة لتلك الألواح الجاهزة من الصلصال؟ أصحاب المصالح والنخب السياسية المنتقاة، قسموا أنفسهم خلال عهد مبارك وسلفيه، فتمكنوا من خلق تلك الألواح، والنقش عليها بالطريقة التي ارتضوها لخدمة مصالحهم. والآن يتكرر الأمر ذاته بعد الثورة. فقد تمكن هؤلاء من رشق أتباعهم فى كل التنظيمات السياسية والأحزاب التى نشأت بعدها. فرجعنا نعيد تشكيل لوحات الصلصال لعجينتها الأولى، لتقبل الصياغات والتلاعب بها حسبما يشاءون. فن الفسيفساء الذى يجيده ساستنا بمهارة على المستوى الداخلي، هو ذاته الذي يعطيهم أصفارًا على المستوى الخارجي. فمنهج الوصاية الأبوية على الشعب لا يرسخ لاستمرار الأوتوقراطية والحكم المطلق في بلادنا فحسب، بل يُجوّد حرفة تصنيع المكعبات الصغيرة، وتزيين الفراغات، وتشكيل التصاميم ذات الألوان المختلفة دون جدوى. وهو ذاته الفن الذى أجاده الفراعنة من قبل مع شعوبهم. غير أن الفارق في الجديد، أنه قد أصبح يهتم بالتفاصيل دون قراءة الصورة المراد تركيبها. فلوحات الصلصال التي نصر على استمرار وجودها، ما هي إلا ألواح بيضاء تقبل حتى بكتابات الطباشير، سريعة المسح، قليلة التكلفة سهلة التشكيل والرسم. تصلح كلوحات للتدريس والمناقشة، وتقبل بإعادة الاستخدام لوقت طويل بلا جهد، بعد إضافة الماء إذا جف الصلصال. وتشبه لوحات الفلين التى تحفظ السياسى داخلها، لكنها سهلة الكسر. لوحات الصلصال التى نصر عليها يا سادة، تدمر أي سياسي في طموحه، وفى ماهية التمثال الذى يشكله. فمجرد إضافة رتوش الماء يصبح التكوين الذي أنشأه والأرض سواء. لوحات الصلصال النى نتميز بها، لا تبني دولة ولا سياسة ولا اقتصاد. ولا يمكنها تخريج ساسة عظام، لهم رسالة ورؤية كبقية الساسة فى بلاد الله. ومع هذا يتبارى ساستنا فى الإحاطة والالتحاف بأكبر عدد من تلك القوالب الجاهزة. وحالما يحصلون عليها يبدأون فى مشروعاتهم السياسية فى المكايدة والمعايرة لأقرانهم. ثم سرعان ما يبدأون فى تركيب الصورة العبثية التى يريدنها عبر هؤلاء السذج المحيطين بهم. فكل مجموعة أو نخبة سياسية، تحرص على تحديد الهدف الذي تريده من اللوحة، بأقل الأدوات وبأضعف الأفكار والرسوم. لوحات الصلصال نفسها لا تستطيع البوح بما ارتكبه هؤلاء الشياطين على ظهرها من رسومات. ولا تقر بأية تفاصيل شارك هؤلاء فى تخطيطها. وطالما أن هذه اللوحات لا تستطيع النطق، فإن الأقران من السياسيين، هم الوحيدون الذين يملكون القدرة على قراءة الرسالة التي خطها منافسوهم. لذا تراهم يردون عليها بلوحات مضادة وأقوى من تلك المرسومة. وإذا قرأت التحركات التي تجرى عبر الشوارع والميادين الآن، لأدركت الكيفية التي يدير بها هؤلاء الشياطين شعوبهم السطحية. لتتأكد بأن شعبنا مازال يوظف كلوحات من الصلصال سابقة التجهيز من قبل أطراف تتحكم فى إخراج المشهد النهائي. كنا نظن أن الجيل الثورى، الذى أنا واحد منه، لا يمكنه القبول بأن يكون جزءًا من لوحات الصلصال المعدة سلفًا. غير أن الاستماتة على إضافتهم على قوائم التنظيمات، والاصرار على إشراكهم فى كافة الاحزاب والحوارات، ثبت أنه لا يقدم إلا مزيدًا من عساكر الصلصال الجديدة، زاهية الصنع لتزيين اللوحة فقط. وما هى إلا مباهاه بكثرة الجنود وعساكر الدرك الخشبية. كنا نظن أن الجيل الجديد هو جيل مختلف عن أجيال الصلصال السابقة، مناهض للتسلط ورافض للظلم الاجتماعي، ومدافع عن الحريات. غير أن الأيام قد صدرت يأسها للجميع. فباتوا جزءًا من المشهد العبثي القائم، ومجرد لوحات جديدة لا تضيف للسابقة إلا عددًا وعدة. ولا تتفوق عليها إلا فى مزيد من الإضاءة والحيوية للوحات القديمة. لذا فإن السؤال الذى يطرح نفسه الآن: هل المشكلة في الشعب؟ أم في الساسة؟ أم فى الظروف الدولية التي تفرض وجود تلك اللوحات البيضاء في معرض البيع؟ أعتقد أن شعبنا الكريم قد أثبت خلال العامين الماضيين، من الذكاء والفطنة والإيجابية، أنه ليس شعبًا من الصلصال. فلماذا يصر ساستنا المبجلون على عودته صلصالًا كما كان؟ خلاصة القول، إن إصرار أصحاب المصالح وساستنا على تحديد الدور يقوم به الشعب على المسرح، يشى بأن الخطأ يكمن فى التركيبة السياسية والطبقية المستفيدة من النظام إجمالًا. فالأدوار التى يلعبها هؤلاء في تحديد مواصفات الشعب الذي يحكمونه، ومدى سيطرتهم على حجم المعلومات التي يسربونها للجماهير، للحفاظ على مكانتهم المتفوقة، يستوجب علينا ضرورة النظر في الصورة المركبة أمام أعيننا. ومحاولة الاقتراب من ذهنية الأفراد والجماعات المحركة لمجتمع الصلصال القائم. لفهم المقصد من الإصرار على إبقاء شعبنا الكريم، مجرد لوحات بيضاء يصلح تسويقها، والتكسب من ورائها. فهل ما زلنا لا نقنع معشر النبلاء بأننا لسنا شعبًا من الصلصال؟ أم أن ساستنا هم الصلصال الذى يجب أن نتخلص منه؟ د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.