ما رأيته بعد هزيمة الفريق المصري أمام فريق الجزائر في أم درمان من سلوك مصري أشبه بالسلوك الجمعي تحول فيه المصريون وراء إعلامهم خاصة الرياضي إلي أمة تحركها المشاعر والعواطف ، ورغم أهمية المشاعر والعواطف في الحياة الإنسانية الفردية ولكنها في حالة الجماهير الجمعية تفتقد الوعي والرشد ويتحول الناس فيه إلي كتلة ربما غير منطقية في السلوك والتفكير ، إنه هنا يعرف في العلوم الاجتماعية بالسلوك الجمعي ، وهو شكل احتجاجي تتحرك فيه الجماعة وفق الجوقة واللحظة الفياضة بالأحاسيس والمشاعر المبتسرة وغير الناضجة . لقد شاهدت المباراة الفاصلة بين فريقي مصر والجزائر للتأهل لكأس العالم وكنت أتمني بالطبع أن يفوز فريق بلادي ولا أداري أنه قد انتابني شعور بالألم لهزيمة الفريق المصري ، كما أنني شعرت بنفس بالألم أيضا لما تعرض له مشجعو الفريق المصري في السودان من المشجعين الجزائريين الذين كانوا جزءا من لعبة في السياسة الداخلية الجزائرية استغلت مشاعر المحبطين في الجزائر والفئات المهمشة لتحويل إحباطهم وعنفهم إلي ما يوصف عادة في العلوم الاجتماعية في العلاقات ذات الطابع الصراعي بين الجماعات والدول بأنه " كبش فداء " ، وهذا الكبش الذي يكون فداء لضعف الداخل وإحباطاته أو تنفيس شحنات الغضب للجماهير أو جلب تأييدهم والشعور بأن جهة (ما ) تحوطهم بعنايتها وحمايتها في السلطة ومن ثم يتحولون بأصواتهم ومشاعرهم تجاههم . من المؤكد أن الجماهير المصرية تعرضت في السودان لضغوط عصبية ولحظات تعرضت فيها للتهديد من الجماهير الجزائرية الغاضبة والمتنمرة والتي تحركها مشاعر غرائزية وغير عقلانية وخاصة وأن الجماهير المصرية التي ذهبت للسودان كانت ذات طابع مخملي لم تعتد علي التعرض للحظات التهديد والعنف وحركات الجماهير التي تحركها الغرائز ، ومن ثم شعرت هذه الجماهير بالإهانة والألم النفسي وأن الدولة المصرية لم تكن حاضرة بأدواتها الديبلوماسية والرياضية وبتواجدها القوي في السودان وهو بلد مجاور لمصر وله حدود مشتركة معها ويدخله المصريون بلا تأشيرة ومن المفروض أن يكون حضور الدولة المصرية هناك قويا . وبالطبع فإنه من حق الجماهير المصرية أن تغضب من هذا السلوك التعصبي والغرائزي واللاعقلاني للمشجعين الجزائريين ففي النهاية الفريق المصري والجزائري فريقان عربيان ، ومن يصعد منهما سوف يمثل الأمة العربية ، وبصرف النظر عن القومية العربية كأيديولوجية فإن هناك روابط تجمع بين العرب هذه هي روابط اللغة والدين والتاريخ المشترك والثقافة المشتركة والجوار الجغرافي الذي لا يمكن الفكاك منه . لكن أن يتحول الغضب المصري إلي تعبيرات ذات طابع تعصبي وغرائزي أيضا تفتقد للمنطق فإنه هنا سيثير التساؤل حول أياد وجهات إعلامية بالذات مجهولة تأخذ بالمصريين جميعا إلي حيث يتعمق شعورهم بالعداء لشعب كامل وهو شعب عربي مهم هو الشعب الجزائري والذي كان الجمهور بالتأكيد لا يمثل كل قطاعاته وشرائحه . هناك غضب مصري مبرر بلا ريب ولكن أن يتحول هذا الغضب إلي انصراف كامل لقضية واحدة فقط سيطرت علي الناس بشكل هستيري فصرفت عما عداها من غيرها من القضايا الخطيرة والمهمة والتي تتعرض لها الأمة العربية والإسلامية بل وتواجهها مصر ، إنها مباراة لكرة القدم ، وليست حربا يتحول فيه الجزائريون إلي أعداء كما لو كانوا يهودا أو صهاينة أو غاصبين أو محتلين . الغضب المصري انفعال مستحق ولكن قوة الغضب حين تزيد عن مداها وحدها فإنها تتحول إلي تعبير تعصبي هدام ، ونحن كعرب نغضب بقوة وبشكل لحظي ثم لا نلبث أن تذهب موجة الغضب تلك ليأتي داعي العقل ، وأتمني أن تتحول تلك الهبة المصرية التي بدا فيها المصريون كرجل واحد - إلي طاقة للعمل الإيجابي الحقيقي في الداخل للنهوض ببلادنا من الفقر إلي الغني ومن التخلف إلي النهضة ومن الضعف إلي القوة ومن التفرق إلي الوحدة ومن الأنانية والفردية إلي الجماعية والتكافل ، ومن الأثرة إلي الإيثار ومن لحظات السكرة إلي لحظات الفكرة . إن السلوك التعصبي للجزائريين لن يكون طلقة سددها من حركوا هذه الجماهير إلي المصريين بل إنه سيرتد إليهم حين لا تكون هناك مبارايات لكرة القدم ، والذين يشعلون حرائق الغضب في مصر عليهم أن يتوقفوا ويكفوا فإن كل شئ إذا زاد عن حده انقلب إلي ضده ، وبنفس ا لمنطق فإن التهييج والتعصب سيرتد إلي مشعليه لأننا نرسخ في نفوس الناس وعقولهم طريقة للتعامل مع مشكلاتهم ، ومهما كانت صعوبة أوضاع الداخل فعلينا مواجهتها بما تستحقه وليس بأخذ الناس إلي مناطق للتنفيس عن المكبوتات والمشاعر والإحباطات فهذا سلوك للحظة وليس للمستقبل ، فالمشاعر والعواطف لا تبني أمما ولا يمكن الوثوق فيها وحدها للنهضة والتقدم ، ومصر في أحوج لحظاتها لتغليب منطق العقل لا غثاء المشاعر .