يمثل الدكتور محمد عمارة حالة نادرة في الحياة الثقافية المصرية طوال النصف قرن الأخير كله ، فهو شخصية عصامية ، بنى حضوره في أعلى قمة المشهد الثقافي والفكري المصري والعربي بجهده وعطائه وصبره الجميل على البحث العلمي ، لم يتسلق عمارة كما فعل كثيرون غيره على أكتاف مؤسسة رسمية أو وزارة من الوزارات أو حكومة ، ولم يحجز مكانه في قمة الهرم الثقافي بالتزلف لهذه السلطة أو تلك ، لا داخل مصر ولا خارجها ، بل كان دائما على يسار السلطة ، وخارج إطارها ، صحيح أنه لم ينتهج العمل السياسي ، ولكنه كان أمينا مع نفسه وقارئه ومنهجه ورسالته ، بالمحافظة على استقلاليته وأن لا يخط قلمه إلا ما هو مقتنع به ومؤمن به ، وحتى عضويته في مجمع البحوث الإسلامية ، أعلى مرجعية علمية في الأزهر ، لم يحدث إلا في السنوات الأخيرة ، بعد أن طبقت شهرته الآفاق ، وانتشرت أبحاثه وعلمه في أرجاء الدنيا ، وأصبح من العسير تجاهله على المؤسسة الدينية الرسمية الكبيرة ، واحترام عمارة لنفسه وأمانته مع العلم والحقيقة ، جعله لا يستنكف أن يتحول برؤيته الفكرية من اليسار العلماني إلى الرؤية الحضارية الإسلامية ، وكان شديد الإعجاب بالرمزين الشهيرين ، جمال الدين الأفغاني كثائر ، ومحمد عبده كرمز للوسطية الإسلامية ، وكان عفيفا في خلافه ، ويحترم آراء من ينتقدوه ، سواء في بعض رؤاه الفكرية أو حتى موقفه من الأفغاني وعبده حتى لو كانوا من جيل لاحق ، وصاحب هذه السطور كان أحد من اختلفوا مع عمارة وانتقدته نقدا شديدا قبل حوالي عشرين عاما في أحد كتبي ، ثم زاد احترامي له بعد ذلك كلما اقتربت من تحولاته الفكرية وشخصيته العصامية النبيلة ، قبل عدة أشهر أحال الأزهر أحد الكتب التنصيرية التي انتشرت مؤخرا إليه لكتابة تعليق علمي على ما ورد فيه ، بعد شكاوى وصلت للأزهر من نشر الكتاب في مصر بدون رد علمي ، وقد كتب الدكتور محمد عمارة مذكرة علمية رصينة في الرد على شبهات هذا الكتاب ، أوصى الأزهر بطباعتها كملحق شهري تقليدي لمجلته الشهرية "مجلة الأزهر" ، وهي عادة مجمع البحوث الإسلامية في عشرات الكتب والموضوعات الأخرى ، والمذكرة العلمية كانت معنية بتوضيح الفوارق الاعتقادية بين الإسلام والمسيحية ، ونفي ما نسبه مؤلف الكتاب التبشيري عن الإسلام ومحاولته الخلط بين عقائد الإسلام والعقيدة النصرانية ، وقد حاول بعض المتطرفين الأقباط والصحف المتمولة من الملياردير القبطي نجيب ساويرس إثارة مشكلة مع كتاب عمارة ، بدعوى أنه يزدري بالمسيحية ويصف الإنجيل بأنه وقع له تحريف وأن الاعتقاد بالتثليث يمثل شركا في نظر الإسلام الاعتقادي ، وهذه النقاط القليلة التي وردت ضمن كتاب عمارة قواعد اعتقاد بديهية في الإسلام ، وهي معطيات نصوص القرآن الكريم الواضحة في هذه الأمور ، والتي يؤمن بها المسلمون في كل زمان ومكان منذ ألف وأربعمائة عام أو يزيد ، فهل سنتهم القرآن بازدراء المسيحية أم سيطالب هؤلاء بمنعه هو الآخر ومصادرته أو وقف تلاوته ومصادرة جميع كتب العقيدة الإسلامية ، أم أنه ستتم مطالبة المسلمين بإعلان اعتقادهم بأن الإنجيل وحي محفوظ وأن الله ثالث ثلاثة مثلا ، وهل يمكن لهؤلاء الجهابذة أن يوضحوا لنا إذن فيما يختلف الإسلام عن المسيحية ، أم أنهما دين واحد وعقيدة واحدة ، الحقيقة أن هذه المواقف تدلل على حالة "تهريج" في أوساط بعض الناشطين في الحالة القبطية ، والمتاجرين بقصة حقوق الأقباط ، والله يقطع "أنبوب" الدولارات الذي ينهمر على القاهرة من أمريكا وكندا ، فهو سبب هذه المتاجرة الرخيصة بالقضية القبطية والمزايدات المضحكة بين بعض الناشطين ، والتي وصلت إلى حد التراشق العلني بالاستيلاء على أموال "أنبوب" الدولارات الواردة إلى بعض النشطاء الأقباط هنا وكذلك خناقات "الفلوس" الشهيرة بين مجموعات صاخبة منهم خارج البلاد . [email protected]