اخترنا عنوان المقال اقتفاءً للمقولة المصرية الشهيرة "حسبة برما". تلك المقولة التى لا يعرف الكثيرون منّا أصلها ولا فصلها. فحسب ما تشير إليه إحدى وثائق الأرشيف المصري اللطيفة، أنها حسبة تخص إحدى القرى التابعة لمركز طنطا محافظة الغربية، تسمى قرية برما. وجاءت تلك المقولة عندما اصطدم أحد أفراد القرية بامرأة كانت تحمل قفصًا محملًا بالبيض تتاجر فيه، فأفقدها إياه. وحينما أراد تعويضها عما فقدته من البيض قال لها الناس: كم بيضه كانت بالقفص؟ فقالت: لو أحصيتم البيض بالاثنين لتبقى بيضة، ولو أحصيتم بالثلاثة لتبًقى بيضة، وبالأربعة لتبقى بيضة، وبالخمسة لتبقى بيضة، وبالستة تبقى بيضة، ولو أحصيتموه بالسبعة فلا يتبقى شيء. وبعد اشتراك أهل القرية في حسابات كثيرة معقدة وعسيرة، عرفوا بعد جهد أن القفص كان يحتوي على 301 بيضة، فجاءت المقولة "حسبة برما". مبارك أدخلنا من قبل في دولة برما لمدة ثلاثين عامًا، وجعلنا نضرب أخماسًا في أسداس. وحينما حسب المصريون حساباتهم الكثيرة والمعقدة، توصلوا لحلها عبر ثورة 25 يناير 2011، فأسقطوه وسجنوه. غير أن القائمين على الأمر بعدها راحوا يبتدعون حسبة جديدة تعيد الناس لتخبطاتهم السابقة. ففرض العسكر، حسب اجتهاداتهم وقرائتهم القديمة لآليات العصر، مفردات حسبتهم. فخرج الناس عليهم بسرعة قبل أن يغرقوا في الدوامة الجديدة. ونحن الآن نعيش في حسبة الإخوان، تلك الحسبة العويصة التي أدخلت المصريين جميعًا في حسابات معقدة لا تنتهي حتى اللحظة. ويبدو أن البلد نفسه المصدر لحسبة برما، قد فرض، مع محافظات أخرى مضارة من سياسات الإخوان، ملامح حسبة جديدة لم يخرج القائمون على الحكم منها حتى الآن. وعلى هذا، فإن تضارب حسبة الإخوان مع حسبة المحافظات مع حسبة المعارضة مع حسبة الثورة، قد فرضت حسبة ذات نمط جديد، لا أمل فى حلها قريبًا. فلا تصلح فيها القسمة على كل الأعداد، ولا تصلح للجمع أو الطرح أو الضرب. حسبة خلا فيها الذكاء والمنطقية وقواعد الأرجوحة. صحيح أن الاختلاف هو سنة الحياة، لكن يجب أن يكون اختلافًا من أجل التعارف وبناء الثقة وإقامة الحياة كما أرادها المولى عز وجل. لا اختلاف يُعرض مصالح الوطن والمواطنين للخطر والضياع. وصدق نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حينما ذكر "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة. فحينما شبه جموع الناس بجموع الإبل، لا فرق بين تلك الإبل وبعضها، إلا الراحلة المتميزة النجيبة التى تصلح للرحلة، كان موصفًا للحال التى يحياها الناس. فلا تجد بين كل مائة إبل إلا راحلة واحدة تصلح للركوب، كونها وطيئة سهلة الانقياد. وكذا لا تجد في جموع الناس من يصلح للقيادة والزعامة إلا واحدًا بين كل مائة. وعلى هذا فإن حسبة دولة برما التى نعيشها الآن، تقول بأن القيادة التي وصلنا إليها، عبر الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لا تصلح. كون البعض لا يؤمن بكونها الراحلة المناسبة للقيادة. حدثني أحد الأصدقاء بأنه مبهور من أداء الإسلاميين السياسي طيلة الفترة الماضية قائلًا: إن الدستور الجديد لم يلتزم بتطبيق الحدود، ولم يحرم الربا أو يفرض الزكاة، ولم يتحدث عن الالتزام بالنقاب أو حتى الحجاب، ومع ذلك قبلوه وارتضوا به. ومع أنك تشعر من انبهاره هذا، بالغمز واللمز من الأداء، إلا أن محاولة استبعاده إياهم من مشهد الحكم، كان هو الغرض الرئيسي من المناقشة. فيجب أن يكتفى هؤلاء بأن الرئيس منهم، ولا داعي للتحكم في مفاصل الدولة. في تقديري أن الرئيس يُدفع مرغمًا لاستبعادهم من المشهد، خوفًا من حساب التجربة عليهم. مع أن التجربة في مجملها محسوبة بشكل أو بآخر عليهم. ويدفعون تكلفتها من سمعتهم ونزاهتهم وأعراضهم، فليُتح لهم الفرصة لتحملها كاملة دون نقصان. ربما تكون خشية الرئيس من تحميل الإسلاميين عبء التجربة، لا يأتي من قناعات شخصية منه بذلك. بل أعتقد أن الذين يزينون للرجل بذلك، هم المستفيدون الوحيدون من هذه الحسبة التي فرضوها عليه. ولعل التوجسات بين الإسلاميين بعضهم البعض، وحسابات دولة برما شبه اليومية، أضافت عبئًا جديدًا على المشهد السياسي القائم. دولة برما هي التي فرضت مهرجان البراءة لجميع قتلة الثوار، والتهيئة للحكم القضائي يوم 13 يناير 2013. والذي يحق للرئيس مبارك على أثره الخروج إلى منزله والذهاب لممارسة عمله كفريق بالقوات المسلحة، باعتباره آخر قادة حرب أكتوبر الأحياء، حسب قانون السادات. دولة برما كانت تستوجب التعليق الإعلامي على هذا الأمر. لكننا دخلنا في مرحلة تهيئة الناس للبراءة، فحدث هذا السكوت العظيم. الإعلام لدينا يشارك في صنع الجريمة ويسكت عنها، حينما يُطلب منه السكوت. الإعلام والتحقيقات الفاسدة، نتيجة حسبة برما التي نعيشها، جزء من لعبة قذرة تجر البلد لخراب وانقسامات لا تنتهى. فالناس بدأت الآن تتعاطف مع مبارك ولصوصه، مع أن أي ثورة لا تقوم إلا على فساد ما قبلها. لكن حسابات دولة برما المفروضة حتمًا علينا، جعلت قطاعات من الجماهير تترحم على الماضي، وهذا هو ملمح الخطر. حسابات دولة برما، مفروضة حتمًا على الناس بالأزمات الاجتماعية وبنقص السولار والبنزين، وبتوقف عجلة الإنتاج والمصانع وانقطاع الأرزاق. بات الناس في دولة برما منشغلون بحسابات السياسيين التي وصل بهم الحال، للتهديد بضرورة الاستجابة لها، أو دونها تقع الرقاب. حسبة برما التي نعيشها حسبة جديدة على المصريين. لا يملكون فيها حتى ذكاء الفلاحة التي قدمت المعطيات لحلها. ولا أريحية المتعاطفون معها بالمشاركة في التجميع وتقديم الحل. ولا حتى مهارة ذلك الفلاح القروي، الذي فرض الحسبة، وبادر بتعويض المرأة عن الخسائر التي لحقت بها. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.