إن أغلب ما نعرفه ونسمعه عن المسجد الأقصى يتعلق بواقع الاحتلال والإنفاق والاستهداف، وهذه المعرفة واجبة لازمة لإدراك خطورة ما يحيق به، والدور المنوط بمن يتعاملون معه كعقيدة وهوية وقضية مصيرية، غير أن هذه المعرفة في غالبها مطبوعة بطابع مأساوي يسيطر عليه الخذلان من أصحاب القضية، إلا من قلة رحمها ربي، والتآمر العالمي بالصمت والمعونة لمن يريدون القضاء عليه، ولما كانت أولى خطوات النصر إيمان واستبشار وتوكل وضربة معول في صخرة اليأس تأتي ببشارة مُلك كسرى وقيصر، كان لا بد أن ننظر بنظرة مختلفة إلى المسجد الأقصى، نظرة يغمرها الأمل والمحبة والأشواق القلبية، نظرة ترقُّب اللقاء كتلك التي ملكها ابن القيم الجوزية وهو يصوغ رائعته في وصف الجنة (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) فجعلنا نستطلعها بآيات الكتاب وأحاديث السنة يحدونا الأمل بالله أن يكون لنا فيها نصيب فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولقد أدرك الإمام العسقلاني هذا الرابط فقال عند زيارته للمسجد الأقصى: إلى البيت المقدس جئت أرجو جنان الخلد نزلًا من كريم قطعنا في محبته عِقابا و ما بعد العقاب سوى النعيم ولقد أحس أسلافنا بهذا الجمال الذي انطبع في قلوبهم طهارة و قربًا، فقالوا إن الله اختص مكة بالجلال واختص بيت المقدس بالجمال، وقال معاوية بن أبي سفيان في خطبة له في المسجد الأقصى "إن هذه البقعة الواقعة بين جداري هذا المسجد أحب إلى الله تعالى من سائر الأرضين" وأخذ البيعة بالخلافة في القدس لا في عاصمة الخلافة الأموية بدمشق إدراكًا لأهميتها وتعظيمًا لها، ولخص بشر الحافي لذات الدنيا كلها وجمعها ببيت المقدس، وأجاب حين سُئل لماذا يفرح الصالحون ببيت المقدس قائلًا: "لأنها تُذهب الهمَّ ولا تنشغل النفس بها". ولقد طهر المسجد الأقصى نفوس المحبين له فكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يترك كل متاع الدنيا ولا يقرب حتى شربة الماء أو كسرة الخبز عند صلاته في المسجد الأقصى رغبة في الأجر الذي أخبر عنه الحديث "و لا يأتيه أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه"، وبقربه أيضًا أدركت رابعة العدوية منازل المحبة والشوق لله، وفيه كتب الإمام الغزالي إحياء علوم الدين الذي قيل فيه من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء. وفي بناء المسجد الأقصى تترسخ الوراثة الإيمانية، وراثة أمة محمد صلى الله عليه وسلم للأمم جميعًا من أول أبيهم آدم الذي بنى الكعبة التي رفع قواعدها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم بنى بعدها بأربعين عامًا المسجد الأقصى، وفي هذا يؤكد الدكتور هيثم الرطروط بعد دراسة وقياس التطابق بين أبعاد المسجدين أن بناء المسجد الأقصى جاء باتجاه مكةالمكرمة، قبلة الأمة الخاتمة، ليؤكد الوحدة والصلة بين القبلتين. وتترسخ فيه آية "أن المساجد لله" فكل ما فيه يذكّر بالله وآيات الله وقدرته، فالجامع القبلي مثلًا صمد بأمر الله لكل الزلازل والصواريخ والحرائق مذكرًا بمساجد التقوى التي تقوم وتُحفظ بأمر الله، وبيت الرب المكفول بحمايته ولو اجتمعت عليه أفيال الدنيا وأبرهة كل عصر. أما قبة الصخرة فدليل على تفوق المسلمين المعماري، فمن حيث الموقع تقع في نقطة الوسط والقلب من المسجد الأقصى، وقد أرادها الأمويون تحفة متميزة ودلالة على تفرد المسلمين فوق الأمم التي سبقت وآثارهم فأعدوا لها نموذجًا في قبة السلسلة، وكلف عبد الملك بن مروان أمهر مهندسي عصره رجاء بن حيوة ونصر بن سلام بالمهمة فكان أحدهما مختصًا بالجوانب الجمالية والفنية والآخر في الهندسة والبناء، وأنفق عليها خراج مصر لسبع سنين فلما انتهى البناء بقي مائة ألف دينار فأرسلها الخليفة مناصفة كهدية للمهندسين، فما كان منهما إلا أن اتبعا نهج التجرد والتعفف وبذل النفس والمال كأسلافهم من الصحابة و التابعين فردوها قائلين: لو احتاج المسجد الأقصى لأنفقنا عليه من حلي نسائنا، فأمر الخليفة بالنقود فسبكت صفائح ذهبية وأفرغت على القبة التي تلألأت من يومها بالذهب، وهي ذات القبة وهو نفس المسجد اللذان يعانيان الآن من شح من ينفق على عمارتهما وتثبيت أركانهما وأهلهما. و يفسر الدكتور عبد الله معروف جماليات المسجد الأقصى في كتابه المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك، فالقبة مثلًا مثمنة الشكل تحملها ثمانية مداميك (أعمدة كبيرة) مذكرة بقوله تعالى: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية"، وفيها محاريب ثلاثة تذكر بالأماكن المقدسة الثلاثة في الإسلام: مكة والمدينة والقدس، وفي الجانب الشمالي من القبة سبعة محاريب تذكر بالسموات السبع والأراضين السبع، وعدد الأعمدة في صف الأعمدة خمسة مذكرة بأركان الإسلام وعدد الصلوات، أما الزخرفة الفسيفسائية في القبة فتمثل ثمار وزروع الجنة المذكورة في القرآن كالتين والرمان والزيتون، وتغطي جماليات البناء كذلك معطيات الزمن فحول الصخرة أربعة أعمدة كبيرة تذكر بالفصول الأربعة، وبينها اثنا عشر عامودًا صغيرًا عدد أشهر السنة، و في القبة اثنان وخمسون شباكًا عدد الأسابيع في السنة، وعلى مدار القبة خطت سورة يس قلب القرآن، أما باب الرحمة وهو الباب الشرقي للمسجد الأقصى فيتكون من بوابتين التوبة والرحمة ويطل على الوادي المعروف بوادي جهنم، وهو في اسمه وموقعه يذكر بقول الله تعالى في سورة الحديد "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" بعد الفتح الصلاحي لبيت المقدس وكانت الدماء قد جرت فيه مجرى الماء والمسجد صار إسطبلًا للخيول وحظيرة للدواب غسله الأيوبيون بماء الورد والمسك وعطروه بالبخور وكان يكفي الغسل بالماء الطاهر ولكنها حضارة الجمال والإجلال التي تجعلنا ننظر للمسجد المحتل المدنس الآن نظرة تفاؤل وأمل... وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.