بعد فوز الدكتور محمد مرسى رئيساً لمصر تعرض لهجمة سرشة من العلمانيين واليساريين، ومن ضمن ما قيل ما صرح به الكاتب والأديب جمال الغيطانى الذى قال إن مصر تعرضت لاحتلال مثل الاحتلال العثمانى، وهنا أصيب الجميع بالدهشة، ففكرة أن مصر احتلت بواسطة العثمانيين فكرة قديمة استهلكت بحثاً، وظهرت آراء منصفة رد الاعتبار للدولة العثمانية وللسلطان العثمانى عبدالحميد الثانى على وجه الخصوص، خصوصاً بعد نشر مذكراته التى ترجمها الدكتور محمد حرب عبدالحميد فى منتصف السبعينيات. ولم تتعرض دولة للظلم التاريخى قدر ما تعرضت له الدولة العثمانية التى ظهرت بقوة وتم الله على أيديها فتح القسطنطينية التى حاول المسلمون فتحها مدة تزيد عن سبعة قرون، وأخفقوا مرات عدة حتى تحققت الآية الكبرى على يد السلطان الشاب محمد الفاتح، وعمت الأفراح كافة أرجاء العالم، واجتث هذا الفتح الأكبر معالم الصراع الذى قام على حدود الدولة الإسلامية فى الشام والدولة البيزنطية، وقد قامت الدولة العثمانية بأعمال جليلة قدمتها للأمة، كحماية الأماكن المقدسة الإسلامية من مخططات الصليبية البرتغالية، ومناصرة أهالى الشمال الإفريقى ضد الحملات الصليبية الإسبانية وغيرها، وإيجاد وحدة طبيعية بين الولايات العربية، وإبعاد الزحف الاستعمارى عن ديار الشام ومصر، وغيرها من الأراضى الإسلامية، ومنع انتشار المذهب الاثنى عشرى الشيعى الرافضى إلى الولايات الإسلامية التابعة للدولة العثمانية، ومنع اليهود من استيطان فلسطين، ودورها فى نشر الإسلام فى أوروبا، وقد استمرت الدولة تؤدى خدمات للعالم الإسلامى، ولم تنس دورها التاريخى أبداً حتى فى عز ضعفها وتكالب القوى الصليبية عليه، لم ينسوا ولو للحظة واحدة الهزائم التى أوقعتها الدولة بشعوب أوروبا الشرقية عبر قرون خمسة، فعملت على تشويه صورتها فى الكتابات التاريخية التى اختارت لها كبار المزورين والدجالين لتمرير طرقهم الخبيثة التى فرضوها على المبعوثين إلى الغرب ليعودوا ليفرضوا وجهات نظر أسيادهم المستعمرين. ومن منا لم ينس أحد الجهود العظيمة التى قام بها السلطان عبدالحميد خان الثانى خدمة للإسلام، ودفاعاً عن دولته، وتوحيداً لجهود الأمة تحت رايته، وكيف ظهرت فكرة الجامعة الإسلامية فى معترك السياسة الدولية فى زمن السلطان عبدالحميد، والوسائل التى اتخذها فى تنفيذ مخططه للوصول إلى الجامعة الإسلامية، كالاتصال بالدعاة، وتنظيم الطرق الصوفية، والعمل على تعريب الدولة، وإقامة مدرسة العشائر، وإقامة خط سكة حديد الحجاز، وإبطال مخططات الأعداء، وتعرض الرجل لبلطجة الصهيونية العالمية فى دعم أعدائه كالمتمردين الأرمن، والقوميين البلقان، وحركة حزب الاتحاد والترقي، والوقوف مع الحركات الانفصالية عن الدولة العثمانية، وأخيراً استطاع أعداء الاسلام عزل السلطان عبدالحميد، لتدخل الدولة فى طور الضعف حتم تم القضاء على الخلافة العثمانية، على يد الماسونى مصطفى كمال الذى عمل على سلخ تركيا من عقيدتها وإسلامها، وحارب التدين، وضيق على الدعاة، ودعا إلى السفور والاختلاط. وخاضت الدولة العثمانية حروباً مع روسيا القيصرية، استمرت قروناً، كانت فى شد وجذب، وقد حاولت الدراسات الروسية أن تصور الدولة العثمانية على أنها دولة استعمارية لطبيعة الصراع التاريخى القائم، وقد ابتلينا بتأسيس أحزاب شيوعية فى مصر عقب الحرب العالمية الأولى، وكان أبرز الدعاة الصحافى سلامة موسى المعروف بعدائه للعروبة والإسلام، والصهيونى الكبير "هنرى كورييل"، وأسسوا دعائم وثقافات كانت تكره كل ما يمت للعروبة والإسلام هوية الدولة المصرية، ونالت منهم الدولة العثمانية ونقلوا أقوال الغرب: (السيد الذى لا يخطأ أبداً)، وصارت رويته مسلمات يجب أن تؤخذ فى الاعتبار، وفرضت هذه المسلمات على طلاب المدارس والجامعات، إلا أنه بعد حين كشفت زيف هذه الدراسات، وصدرت دراسات بديلة رائعة مثل الكتاب الموسوعى للدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى بعنوان "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، وكل الكتابات المعاصرة لهذه الدولة مدحت الدولة العثمانية بدءًا من كتاب "شذرات الذهب فى خبر من ذهب" لابن العماد الحنبلى المتوفى 1089ه، وحتى الجبرتى فى كتابيه "عجائب الآثار"، و"مظهر التقديس"، والشوكانى فى كتابه "البدر الطالع"، والشيخ عبدالله الشرقاوى فى كتابه "تحفة الناظرين فيمن تولى مصر من الولاة والسلاطين"، ومحمد فريد فى "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، وكتابات الدكتور محمد حرب، ونيللى حنا، والدكتور على محمد الصلابى، والقائمة طويلة. آن الأوان لإنصاف هذه الدولة فى مناهج التعليم ونبتعد عن دراسات وأقوال الهواة الذين يستسهلون الجزم والحكم على الأشياء، مثل الغيطانى، ومن قبله جمال بدوى، وكذلك نشر المخطوطات المتراكمة فى مكتبات القسطنطينية، كيف نحكم على دولة ونكتب عنها، ونحن نجهل لغتها، ولم نطلع على مخطوطة من المخطوطات التى كتبت زمن هذه الدولة. ما هى أدوات المؤرخ عند الغيطانى؟ هل يتقن التركية؟ هل قرأ كتب "كشف الظنون" لحاجى خليفة، و"مفتاح دار السعادة" لطاش كبرى زادة، وكتب البيطار؟ إنى أجزم أن سبب كره الغيطانى لهذه الدولة تأثراً بابن إياس الحنفى المتوفى سنة 930ه، والذى كان ينتمى إلى المماليك، وكل آراؤه حول هذه الدولة لم تسلم من الغرض والتشويه، لأنها قضت على ملك آبائه، ثم هل يعلم الغيطانى أن وفداً من علماء الأزهر الشريف زاروا الخليفة العثمانى السلطان سليم الأول فى الشام وطلبوا منه التدخل لفتح مصر لأن المماليك عجزوا فى أواخر أيامهم عن صد العدوان المستمر على الدول الإسلامية فى ساحل المتوسط وفى البحر الأحمر، وكادوا أن يجهزوا على البلاد لولا ظهور الدولة العلية العثمانية التى أخرت الاحتلال الغربى للبلدان الإسلامية قرابة خمسة قرون. أما بالنسبة للجهل الذى انتشر أثناء حكم الدولة العثمانية فهو مردود على من يردده، لأنه لم يثبت بالدليل القاطع أنها حاربت العلماء، وعملت لهم محاكم تفتيش كما فعل فى أوروبا فى القرون الوسطى، والحقيقة أن هذه الدولة هى التى انتشلت أوروبا من ظلمات العصور الوسطى بما قررته من حرية المعتقد، فقد عاش فيها المذاهب والأديان لا فرق بين أحد، فى حين أن أوروبا فى نفس الوقت كان لا يمكن أن يتواجد مذهبان فى دولة واحدة، صحيح أن الدولة أغفلت الاهتمام بالعلوم فى فترات نتيجة الانشغال بالحروب التى كانت توجه ضد هذه الدولة تريد الإجهاز عليه، ولم تسترح أوروبا إلا عندما نجحت أخيراً فى إلغاء هذه الدولة بمساعدة رجال لها جندتهم من بنى جلدتنا. ولو كانت الدولة العثمانية دولة استعمارية حقا، لكافحتها الشعوب، كما فعلت مع الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت المثل الأعلى الغيطانى، الذى استطاع القضاء على كل الممالك الأوروبية، ولما جاء مصر، لم يتحمل المقاومة وهرب فى ليل دامس يجر أذيال الهزيمة، تاركاً الحملة لقادة لم يستطيعوا المكوث وسط نار المقاومة. أتمنى من الغيطانى أن يأخذ إجازة من مقاهى وسط القاهرة، ويعيد ترتيب أوقاته، ويقرأ التاريخ العثمانى بعد أن يفند آراء ابن إياس، ويطلع على كل ما كتب عن هذه الدولة فى الشرق والغرب، ومن الممكن أن يحقق مجموعة من الكتب عن هذه الدولة، ليكفى الباحثين عنت الجهد والمشقة فى التعامل مع المخطوطات. [email protected]