في قصة أمريكية ، تنتهي الأحداث بالحكم بالإعدام على مجموعة من الفدائيين قبض عليهم بعد تنفيذ عمليات مقاومة ضد المستعمر. وفي حين تقبل أفراد المجموعة الأمر باعتبارهم كانوا قد وطنوا أنفسهم على التضحية بأرواحهم في سبيل الوطن ، انخرط أحدهم في بكاء شديد وانهارت قواه تماما في اللحظات الأخيرة قبل تنفيذ الإعدام ، وكان قد سيق مع المقبوض عليهم دون أن يتورط في العملية ذاتها ، وهو أصلا من معتادي الإجرام. وحاول أن يستدر عطف من بيدهم الأمر بلا طائل ، فكان أن شكا لرفيقه – أحد المحكوم عليهم – وهو مستمر في نشيجه العالي بأن هذا ظلم وأنه لا يستحق هذا المصير ، فرد عليه هذا الرفيق ، ولم تكن تنقصه الحكمة ولا السخرية حتى في موقفه هذا ، قائلا : لنفرض أنك بريء من هذا العمل بالذات ، ألم ترتكب في حياتك كلها جرائم أخرى شنيعة من عهر وسرقة وقتل ، وغير ذلك ؟! فطأطأ الرجل رأسه وتوقف بكاؤه وهو ينصت لرفيقه ، فواصل الرفيق كلامه قائلا ما معناه – بالبلدي المصري – خلاص بقى ما تتحمقش وتتحزق قوي كده ، واعتبر الإعدام ده عقوبة على البلاوي التي فعلتها ولم تعاقب عليها ، فالسماء يا صديقي في جميع الأحوال لا تظلم أحدا ! في العديد من الأفلام المصرية - وكثير منها هابط للأسف لا من حيث المشاهد الخارجة فقط بل في القيم الفاسدة والمضللة التي تنشرها أيضا – تجد البطل يرفع يده للسماء شاكيا وربما محتجا : ليه يا رب كده ؟ هوه أنا كنت عملت إيه بس في دنيتي عشان أشوف دا كله ؟! والقرآن يجيب على مثل هذه المواقف – وهي تحدث في الحياة أيضا وإن كان الفن مسئولا عن عدم إقرار شخوصه عليها – بقول الحق جل وعلا : " ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد" (الحج – 10) ، وقوله سبحانه ، معلما صحابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير" (آل عمران – 165) ، صدق الله العظيم. أقول لكم هذا يا أصدقائي وأذكركم به للانتباه إليه في كل مواقف الحياة ،وبالذات عندما يصاب المرء بابتلاء ينسى معه كل خطاياه وسيئاته ويضع الشيطان على لسانه تلك القولة الجاحدة : لماذا يا رب ؟ ماذا فعلت ؟ من أين جاءتني هذه البلايا ؟ فعلى كل منا أن يتذكر ربه عندئذ ويثوب إلى رشده ويطرد وساوس الشيطان ويردد الآية الكريمة : قل هو من عند أنفسكم. وعلينا ألا ننسى أن الاستغفار يرفع البلاء وأن الصدقة تطفيء غضب الرب ، وأن التوبة النصوح تجب ما قبلها ، وأن الدعاء الصاعد يوقف البلاء النازل ، وأن من محامد الرب العظيم جل شأنه أنه "واحد" وأنه لاملجأ منه إلا إليه ، وأنه نهى عن اليأس من روحه والقنوط من رحمته. ولأن الشيء بالشيء يذكر ، فعلينا أن نستدعي الحالة ذاتها ونحن ننظر إلى الوراء في سخط بعد مباراة مصر والجزائر بالسودان ، والتي توقعت أن تحدث لها تداعيات خطيرة أيا كانت النتيجة ، بعد تصويرها إعلاميا على أنها "موقعة". وقد لاحظت شحنا إعلاميا وتعبئة نفسية غير مسبوقة ، ومازلت أشم رائحة غير مريحة في الموضوع كله. الجميع الآن غضبان مما حدث ، والكل يفكر في الانتقام ، والصهاينة من واقع وسائل إعلامهم في حالة شماتة شديدة ويصفون ما حدث بأنه يكشف مدى "تخلف العرب وحقارتهم" ، عذرا ولكن هذا نص تعليقاتهم كما نشرتها جريدة يديعوت أحرونوت ، وهكذا أعطينا هؤلاء البرابرة السفاحين الفرصة لكي ينعتونا نحن بالتخلف والحقارة. وأنا أريد رد فعل مختلفا تماما ، وأعرف أن هذا صعب في ظل استمرار تأجج المشاعر. أنا أريد أن يعود الجميع لإعادة تقييم حياتنا كلها كعرب وكمسلمين ، فمثلا : هل ما زال هناك من يؤمنون بالعروبة فقط بعيدا عن حضن الحضارة الإسلامية ؟! أنا أفهم الاعتزاز بالعروبة في حضن الإسلام كحضارة تضم الجميع ، وليس فقط كدين ، لأن العرب لولا الإسلام لظلوا بدوا أجلافا ولذابوا تماما في ظلمات التاريخ الغابر ! وقد سقطت أكبر نظريات القومية العربية ، التي تجعل العروبة الرابط الوحيد لشعوب منطقتنا ، سواء الناصرية أو البعث ، تحت مطارق التاريخ التي لا ترحم ، وثبت فشلها ، ولا يجادل في ذلك إلا منتفع أو مغيب العقل ، و"المنتفعون" و"مغيبو العقل" يمتنعون من فضلكم ! وقد رأينا كيف جعلت مباراة كرة قدم المصري يعود للاعتزاز بمصريته ، والجزائري للاعتزاز بأمازيغيته أو بتوحده مع الثقافة الفرنسية ، وانفض في ثوان مولد القومية وتبخر مفهوم "وطني حبيبي الوطن الأكبر"! ثم ، أليس في شعوبنا رجل رشيد يضع الأمور في نصابها وفي حجمها الحقيقي ؟ ألم يئن الأوان بعد لكي نتعامل بجدية مع الحياة التي نعيشها حيث لا مكان لغير الجادين والأقوياء ؟! وأخيرا ، إذا قال لك أحد : من أين تأتينا كل هذه المصائب ؟ أجبه قائلا : قل هو من عند أنفسكم ، فانظر في نفسك ، وانظر فيما حولك ، وستجد الإجابة الشافية ، فإن السماء يا صديقي لا تظلم أحدا !