الأمة التى لا تملك قرارها ليست أمة مستقلة، والأمة التى تعتمد على أموال الآخرين ليست أمة تستحق الحياة، والأمة التى تستجدى الآخرين أموالهم هى أمة متسولة متسكعة، تنتظر مائدة الآخرين متى توضع، فإذا رفع الآخرون موائدهم ماتت فى مكانها، وقتلها الجوع، ولا تبحث عندها عن كرامة ولا آدمية ولا حقوق إنسان!، وهل تعرف مثلها معنى الإنسانية التى شرفها الله عز وجل بالكد والاجتهاد لعمارة الكون؟ وهل تعرف مثلها شيئًا من تاريخ أسلافنا العظام وأرباب الذكاء حين كابدوا الأهوال لبناء أنفسهم، يحدوهم الأمل والرجاء فى الله عز وجل. فمنذ متى بنت الديون أمة؟ أو رفعت دولة؟ فهى هَمّ الليل، وذل النهار، تأكل المال ولو كثر، فيذهب كأنْ لم يكن. وما أروع قول الرافعي: «إن كثيرًا ممن يموتون عن ميراث لا يحيا ميراثهم إلا أيامًا من بعدهم، ثم يذهب فى الديون، إذ لا تَرِكة مع دَين» [وحى القلم 3/357]. وقد احتاج الإمام أحمد بن حنبل، يومًا، ف«رهن بغلا له عند خباز على طعام أخذه منه عند خروجه من اليمن، وأَكْرى نفسه من جَمَّالِين عند خروجه، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة فلم يقبلها» [تقدمة الجرح والتعديل301]. ولو أراد الدنيا لأتته راغمة، وها هو أحد شيوخه يعرض عليه مالا بغير مقابل، مجرد هدية؛ فيرفضها. إنها النفس العظيمة، والهمة العالية، التى ترمق السماء، فترفض أن تدنس نفسها بأوحال الديون، أو تربط عنقها برباط المال الكئيب، فكانت تطلبه بنفسها، وتسعى إليه بسواعدها. واسمع إلى بِشْر بن الحارث وهو يقول: «يا بُنى وألزم السوق فإنها من العافية» [تاريخ بَغْدَاد5/3، طبقات الحنابلة1/155]. وأسمع صوت أئمتنا الذين كتبوا فى «الحث على التجارة» و«إصلاح المال»، وأعجب من عزة أنفسهم، وارتفاع همتهم، وطلبهم المعالي. ثم أعجب لرجل يجد ذئبًا أو كلبًا ضاريًا ثم يمد يده فى فمه مستمتعًا متلذذًا وهو يرى الذئب يأكلها شيئًا فشيئًا! وليت الدائن كان ذئبًا يكتفى بأكل أيدينا، إنما يرى نفسه صاحب بيت ومالك بلد، وما نحن إلا عبيد إحساناتهم، فمن رفع رأسه فليدفع ما عليه، وليرد ديونه التى تحيط به؛ فإذْ لم يقدر فليسمع وليطع، ولا تحدثنى حينئذ عن استقلال وحرية وكرامة! فأى كرامة حينما نستيقظ لنجد الضرائب والأسعار قد ارتفعت، والخطط قد تغيرت؛ بناء على أوامر الدائنين؟!. وإذا كنا نرفض أن يتسلط على بلادنا أحد عن طريق الديون، فلنرفض أن نكون جسرًا يسهل للدائنين امتلاك بلادنا واحتلالها عن بُعد. إن الذين سهلوا احتلال بلادنا وسلموا رقبتها للدائنين، أولئك ستلعنهم أجيالنا اللاحقة، ولن يمسح عارهم ماء البحر وإن أرادوا. وما تلك المجاذبات والمصارعات التى تجرى فى شوارع مصرنا إلا إحدى وسائل الدائنين لفرض سيطرتهم وإرغام مصرنا الحبيبة على الركوع والاستسلام للمحتل فى شكله المالي. إنها عصا الاحتلال وجزرة المال قد اجتمعتا على بلادنا، وعلى أهلنا وأحبابنا فى مصر الاجتماع والوئام صفا واحدا ضد فرض سيطرة الآخرين علينا بالديون أو بغيرها من الوسائل، فقد سئمنا تدخلات الآخرين فى شئوننا. ولو كانت هذه الديون مجرد مال يدفعونه لنا حبًا فينا لتركونا وشأننا، ندير أمورنا بأنفسنا، ولو كان رغبة فى صلاح بلادنا ما حرضوا على حرقها، وتوقفها، ولو كان حبا فى حل مشاكلها وبناء قلعتها الصناعية ما تكالبوا على بناء مصانعهم لتكون بديلا لمصانعنا، وتقديم خبراتهم لتحل محل خبراتنا، ومالهم بدلا من مالنا، فنظل دائمًا أبدا مجرد اليد العاملة، التى تعمل لدى السيد المطاع. أفهمتم يا سادة لماذا يبذلون لكم المال والمعونات بسخاء لا نظير له؟، فكأنهم يقولون لكل واحد منكم: كل واشرب وسنصنع لك كل شيء حتى لا تفهم ولا تتعلم ولا تعرف شيئًا عن أى شيء، وأنك ستظل مجرد تابع تسير على خطتنا التى نرسمها لك، أهذا استقلال؟ أهذه حرية؟ أهذه كرامة؟ أتقبل أمة بمثل هذا إلا أن تقع تحت احتلال صارخ يقيد حريتها ويسلبها إرادتها؟. فأعيدوا النظر ثانية أيها السادة، واثبتوا على الحق والخير الذى أنتم فيه، ومن راعى الله رُوعي، ومن حفظ الله حُفظ، واحذروا قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى» (طه:126). أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]