سنة من سنن الخالق فى خلقه..التقابل ، بين ملاك وشيطان ، خير وشر ، ليل ونهار ، سماء وأرض ، فرد ومجتمع ، وهكذا ،وبطبيعة الحال ، حتى لا يقع الخلق فى استقطاب قد يعوق ولا ييسر ، قد يكون سببا فى هدم ، لا سببا فى بناء ، جعل الخالق من سننه أيضا " تفاوت " فى الدرجات والألوان والمستويات بين طرفى كل تناقض وتقابل ،وجعل الكثرة من هذه الفئات الوسط ،والقلة فى أطراف المعادلات . وفى كل مهنة ، يمكن لك أن تجد أمثلة لطرفى التقابل ، لكنها قليلة ، وتجد كثرة من تلك الفئات الوسط . ويصبح من المهام الأساسية ، كيف تقدم آيات التقدير والعرفان والتشجيع للطرف الأول ،والتحذير من الطرف المقابل ، ويصبح هذا الجهد خدمة عظيمة تُقَدم للمهنة التى تنتمى إليها. وقد سبق لنا أن قدمنا بعض النماذج غير الطيبة فى الوسط التربوى منذ عدة شهور ، وتصورنا أن تلك الصيحة سوف تذهب أدراج الرياح كمئات المقالات التى كتبناها عن قضايا مهمة ، لكن الحديث عن الفئات المَرَضية، من حسن الحظ حظى باهتمام غير مسبوق ، ففى الوقت الذى تلقى الكاتب فيه تهانى ومؤزارات متعددة ، رأى عكس ذلك أيضا ، ولم يكن عسيرا تفسير : لماذا جاءت التهانى من هنا ، وجاء الهجوم من هناك ، بل ، لو لم يحدث هذا وذاك لكان هو المستغرب حقا. واتصالا بهذه القضية ، أجد نفسى اليوم أمام شخصية عكسية لما سبق أن كتبت عنهم ، ولأننا عاهدنا أنفسنا منذ سنوات طويلة ألا ننال شخصا بذاته من أبناء المهنة بنقد قاس ، إلا بمواجهة شخصية ، بينما نفعل ذلك على المستوى السياسى العام ، حتى أننا نحمد الله أن كنا من أوائل من تصدوا بالنقد عام 1984 وما بعده لمستويات قيادية لم يكن أحد من قبل يتعرض لها ،وإن كان هذا قد أصبح اليوم أمرا عاديا . وعلى العكس من ذلك ، عندما كنا نرى نماذج مشرقة ، بانية ، عالمة ، نحرص على أن نخصها بالاسم ، مثلما كتبنا من قبل عن الدكاترة : سيد عثمان ،وفؤاد أبو حطب ، وكمال دسوقى ، وصبرى الدمرداش ،وعبد الراضى إبراهيم ، مع لفت الانتباه أن أحدا من هؤلاء لم يكن صاحب سلطة ولا مال ، حتى لا نكون من الساعين إلى الاسترضاء ، ولن يكون هناك من بأس أن نعاود الحديث عن بعضهم ، فالنماذج المضيئة ، لا يُستغنى عن الاهتداء بها طوال الوقت ، ولا يُستغنى عن تكرار ذكرها ، حتى تعرف الأجيال الحالية والقادمة ، أنه مثلما هناك شياطين ، فهناك ملائكة ، وأنه مثلما هناك هدامون وقتلة ، هناك بناة ومُيَسرى حياة . ومن هنا ، لا أملّ أبدا الحديث عن " تاج التربويين " حقا وفعلا و " لؤلؤة التربية " ،لا فى مصر وحدها وإنما فى الوطن العربى بأسره ، على الرغم من أنك إذ تفتح المذياع ، أو التلفاز أو هذه الصحيفة أو تلك ، أو قوائم الحاصلين على الجوائز الكبرى ، لا تجد له ذكرا ، وهى ظاهرة معروفة فى المجتمعات المتخلفة ، وهى الظاهرة التى سبق أن كتبنا عنها مقالين ، أحدهما بعنوان " تقزيم العمالقة " ،والثانية بعنوان " عملقة الأقزام " ، حيث يُدفع بعدد من المتميزين فى هذا المجال أو ذاك ، إلى دائرة التعتيم ، وعلى العكس من ذلك ، يمكن أن يحظى من لا يستحق بالأضواء والإشادة والإلحاح الإعلامى وما شابه . أما هذا الذى أعتبره لؤلؤة التربية وتاج التربويين حقا فهو الدكتور سيد عثمان ، الرجل الذى لا تقترب منه إلا وتلمس كيف يكون الإنسان: عف اللسان ، ثاقب التفكير ، حاد الذهن ، طاهر القلب ، يتحول القلم فى يده إلى طاقة ذرية ،للأغراض السلمية ،والحربية، يبنى بها صروح علم وتفكير ،ويهدم بها أيضا جُدر الوهم والتراجع والفردية والحقد الأسود . فى عام 1972 ، عنّ لى أن أُصدر ما عرف " بالكتاب السنوى فى التربية وعلم النفس " ، حيث كانت الساحة فى مصر فى ذلك الوقت تخلو على وجه التقريب من دوريات لنشر البحوث التربوية والنفسية ، باستثناء ثلاث مجلات كانت تصدر عن الجامعة الأمريكية ، ورابطة خريجى معاهد وكليات التربية ، ومركز سرس الليان ، لكنها لم تكن تتسع لنشر البحوث المتعمقة المطولة ، ولا كانت هناك فرص عقد مؤتمرات كبرى . ما أن ترامت فكرة الكتاب ،وهو فى المطبعة حتى هبت نماذج من تلك التى أشرنا إليها فى مقال سابق ، وما سوف نشير إليه بإذن الله فى مقالات تالية ، تُشًَهّر بكاتب هذه السطور ، على اعتبار أنه " لسه خارج من البيضة " ، أى حديث الحصول على الدكتوراه ، ويريد أن يكون " زعيما " ! وكان سيد عثمان ، على رأس قائمة من كوكبة من علماء التربية وعلم النفس استجابوا للدعوة فى الالتفاف حول الكتاب والكتابة به ، مثل الدكاترة فؤاد أبو حطب ،وحامد زهران ،وحسان محمد ،وغيرهم من الإخوة الكرام . بل لقد توعد أستاذ كبير علنا بأن لابد لمثلى ألا يتخطى حاجز الترقية إلى أستاذ مساعد– عندما حل موعدها - حتى يتم تحجيمى وأظل قابعا فى الظل ، لأن الأضواء هى للكبار فقط ، حتى ولو كانوا لا يعملون ! بلغت الحرب ذروتها ، بأن تم الاتصال بالمشاركين وحثهم على سحب بحوثهم من المطبعة حتى ينهار المشروع ،وهو لم يزل بعد فى المهد صبيا ، إلى الدرجة التى بلغ بى الحزن والأسى من أساتذة كبار توقعت أن يشدوا من أزرى ، فإذا بهم يرون ألا يجب أن تكون هناك فرصة كى ينمو شخص آخر ليكون كبيرا ، بعمله وجهده ، مع آخرين ،وفى لحظة ، شعرت فيها باليأس الفعلى وشرعت فى صرف النظر عن المشروع . هنا ، يأتى دور الأستاذ الكبير الحقيقى ..عندما يرى ابنا ، أو أخا أصغر ، يجتهد ، وينمو ، فيرى المسألة فى موضعها الصحيح ،فيؤازر ويشجع ، ولا يستسلم للغل الأسود الذى يأكل بعض القلوب ..إنه سيد عثمان ، فقد صاح فى وجه كاتب هذه السطور أن يصمد ،وإلا فقد ثقته فيه ،وأنه إذا لم يكمل المسيرة ، فسوف يكملها هو مع آخرين ...وهزتنى الكلمات التى لم أنسها حتى اليوم ،واستعدت الثقة فى الكبار ،وبدا يتضح لى حقا أن الكبير لا يكون كذلك بسنوات عمره ، ولا بدرجته ،وشهرته ،ومواقعه ، مهما علت ،وإنما الكبير ، كبير بجهده فى البناء والتشجيع عليه ، بعطائه العلمى ، بنقاء سريرته ، بخلو قلبه من الحقد الأسود ، بعفة اللسان والقلم ! وفى دراسة سابقة لى عن سيد عثمان ، حاولت أن ألخص بعض كتبه ، فإذا بى أقف عاجزا عن ذلك ، مكتفيا بتقديم " مقتطفات " .. كان الأمر بالنسبة لى مثلما يكون بالنسبة لديوان شعر لشاعر عظيم ، هل يمكن أن تلخصه ؟ كلا ، هكذا كتب سيد عثمان : معمار فكرى ، علمى ، كل حجر فيه ، فريد فى طبيعته وفى شكله وفى صياغته ، لا تملك شجاعة الاستغناء عنه للتلخيص ، فلا عبارة يمكن التغافل عنها ، بل ولربما لا أبالغ إذا قلت ، ولا كلمة ! كان أستاذنا الراحل زكى نجيب محمود يحدثنا مرة عما أسماه " نصل أوكام " الذى يقول بأنك إذا حذفت كلمة أو عبارة من بنية كلامية ، فلم يهتز البناء ، فهى زائدة ولابد من حذفها فورا ، فماذا إذا وجدت نفسك أمام أبنية فكرية وعلمية ، لا تستطيع أن تستغنى عن حرف منها ، كما هو الحال فى كتابات سيد عثمان ؟ ولعل أحد الاسباب المهمة فى تفسير ذلك ، أنه ذا نهج " نحلى " فى الكتابة ، أى مثل النحل ، يطوف بزهور المعرفة المختلفة يمتص رحيقها ، ثم إذا به يُخرج منتجا مختلفا تماما ، هو العسل الصافى الذى فيه شفاء للقراء ، عاشقى المعرفة الحقيقية . ولا أخفى عن القارئ ، أننى عندما أفكر فى هذا العالم العظيم ، فى الوقت الذى أشعر فيه بالزهو والفخر أن عرفته وصادقته عن قرب ، أشعر فى الوقت نفسه بالأسى والحزن ، حيث من أمنياتى أن أراه ملء السمع والبصر ، حتى يمكن لآلاف غيرنا ، أن يفيد منه ، لكنه القانون الاقتصادى اللعين ، يطل برأسه ليفعل فعله : العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ! فما من يوم يمر ،إلا ويدخل الساحة الكثير من النماذج الرديئة والتى بلغت كثرتها حدا رسخ قيما متردية ، حتى أصبح البعض يرى الحق باطلا والباطل حقا ،وتمد يدك بالتحية ، فإذا بمن أمامك - لكثرة شيوع سوء الظن والقيم الهابطة – يتصور أنك تمد يدك لتخطف منه قرشا أو لقمة ، فيبادر إلى التصرف المضاد لما توهمه ، ومن ثم فلربما بادرك بحجر أو لطمة أو غير هذا وذاك من صور الإيذاء . لقد بدأ سيد عثمان فى الانسحاب من الساحات التربوية العامة منذ ما يقرب من عشرين عاما أو تزيد أو تقل ، لمثل هذا الذى أقول ، وما جرى على شاكلته ،وآه لو حاول أن يخرج الآن من عزلته ، فسوف يرى أن ما كان يشكو منه بالأمس ، صار أمنية لبعضنا اليوم ، من بشاعة ما جرى ويجرى من سوء حال ، حتى أننى أصبحت أحسده على قراره الشجاع ،وأحيانا ما تمر بى فترات أقرر فيها أن أفعل مثله بالانسحاب ، ثم إذا بى ، بعد فترة أضعف وأعاود الحركة والجهد ، فتحية له من قلب محب ، نائبا عن مئات آخرين يحملون له ما يستحق من التقدير والحب والعرفان ، متعه الله بالسحة والعافية .