لا أدرى كيف يكون الحديث عن أمير المؤمنين أبى حفص عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فهو أعلى من الكلمات، وأجل من العبارات، فهو أكبر من هذا كله. وليأذن لى أبو حفص بالحديث عن جانب من جوانبه، ذلك الجانب الإداري، فقد كان عجبًا فى إدارة الدولة، مضى بها فعبرت معه إلى بر الأمان، حتى صار حائلاً بينها وبين الفتن، ولما سأل عمر رضى الله عنه عن «الفتنة التى تموج كما يموج البحر»، قال له حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: «ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيُكسر أم يُفتح؟ قال: يُكسر، قال: إذًا لا يُغلق أبدًا»، ولما سُئل حذيفة عن هذا الباب؟ قال: «الباب عمر» [رواه البخاري525، ومسلم144]. نعم كان أبو حفص بابًا مغلقًا بين الأمة وبين الفتن، فهو يملك نفسًا فريدة فى كل شيء، بحيث تجمع بين الخلافة والتواضع، بين إدارة بيت المال والزهد فى الدنيا، بين قيادة الجيوش ودموع العابدين، فى تناغم واضح لا يتجاوز هذا على ذاك، فمن يقدر على هذا مثل عمر؟ فهو صاحب النفس الطموحة والعقلية الفذة الراشدة، التى عاشت العدل سلوكًا وسيرة، فنظر إلى الأمة من حوله، فأقام فيها العدل، ثم رأى أن هذا ليس كافيًا، وأن للأجيال التالية حقًا عليه، فلم يهمل المستقبل، ولم يترك دولته مكبلة بالديون، ولا أورثهم أرضًا محروقة، وإنما وضع خطة راشدة لكل ولى أمر، فى النظر للأجيال اللاحقة، والعمل لها، مثلما يعمل للأجيال الموجودة، سواء بسواء. وما أروع قول عمر رضى الله عنه: «لولا آخر المسلمين، ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبى صلى الله عليه وسلم خيبر» [رواه البخاري2334، 4236]. وفى رواية أخرى يقول عمر رضى الله عنه: «أما والذى نفسى بيده، لولا أن أتركَ آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيءٌ؛ ما فُتِحَتْ عَلَى قريةٌ إلَّا قسمتُها كما قَسَمَ النبى صلى الله عليه وسلم خيبرَ، ولكنى أترُكُها خِزَانةً لهم يقتسمونها»، [البخاري4235]. قال ابن الأثير: «لأنه إذا قسم البلاد المفتوحة على الغانمين بقى من لم يحضر الغنيمة ومن يجئ بعدُ من المسلمين بغير شيء منها، فلذلك تركها لتكون بينهم جميعهم»، [النهاية1/91]. لقد قسم النبى صلى الله عليه وسلم خيبر على الناس، إذْ كان عدد المسلمين آنذاك محدودًا، وكانت الفتوحات تتوالى، ولا يزال الإسلام بحاجة لتأليف قلوب الناس، لكن تغير الحال زمن عمر، فاتسعت رقة الدولة جدًا، وقويت شوكة الإسلام، ولم يعد الناس بحاجة لتأليف، فاستقرّت الدولة من داخلها، فنظر عمر حينئذ للأجيال اللاحقة، ولم يحرمها من عدله وتفكيره، وأراد أن يضمن لها حياة كريمة، وأن يسلمها راية مرفوعة عزيزة قوية، غير مكبلة بالديون الخارجية أو الداخلية. ولم تكن تقنعه أنصاف الحلول، وانظر إليه يقول: «لئن سلمنى الله، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدى أبدًا» [البخاري3700]. فهو يفكر فى حلول نهائية دائمة وليست مجرد مسكنات وقتية، وإنما يضع الحلول الكبيرة ويثق فى أن الله معينه على تنفيذها، كيف لا وهو راوى حديث: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا، وتروح بطانًا»؟ وهذه العقلية الفذة، والإيمان العميق بحقوق الإنسان الموجود، وحق الأجيال اللاحقة، هو ما جعل خطوات الدولة الإسلامية تختلف عن خطوات غيرها من الدول، ففى الدولة الإسلامية تحدث التغيرات الكبيرة فى الأزمنة القليلة، وقد غيرت وجه الدنيا فى سنوات معدودة، ولك أن تتخيل أن هذا الاتساع الهائل فى الدولة الإسلامية زمن عمر، وهذا الميراث العظيم من العدل والإدارة قد صنعه عمر فى عشر سنوات هى مدة توليه الخلافة، وستعجب أكثر عندما يتولى أحد أحفاده الخلافة وهو عمر بن عبد العزيز، فتمتلئ خزائن الدولة، ويفيض المال. كل هذا يحدث فى فترات قصيرة، مما يدل على أهمية العقلية الإبداعية، التى تسعى لوضع الحلول والخطط السحرية غير التقليدية، وهذا يوفره الإسلام فى نفوس أتباعه الجادين فى إيمانهم، لما يوفّره الإسلام من حاضنة لصناعة مثل هذه الشخصيات الإبداعية، وهنا تكمن معركتنا مع الآخر الذى يريد تكبيل حريتنا لسد آفاق الإبداع أمامنا، ونحن نطالب بالإسلام لأنه ديننا وطوق نجاتنا، والله الهادي. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]