قدمت فىمقالى السابق "حين استلهم الساسة من ممارسة الطب" عن "السياسة القائمة على الدليل" كأحد أهم الحلول لمواجهة الأزمات التى تمر بها الدولة و لتجميع المواطنين على قرار واحد مع اختلاف ايدلوجياتهم، و لتقريب معنى "السياسة القائمة على الدليل"دعنى أسألك سؤالا، هل تظن أنه يجب على الحكومة المصرية أن تصرف بسخاء على أدوية علاج الأورام نظرا لزيادة معدل انتشارها بين المصريين في الفترة الأخيرة؟ الخطأ هو أن تتسرع بالإجابة ، لأننا حقا لا ندرى هل معدل انتشار الأورام زاد في الفترة الأخيرة أم لا ، لا تحكم بناءا على مشاهداتك و خبراتك الشخصية لأنها ليست مقياسا لسياسات الدول ، بل يجب علينا أن نجرى بحوث مسحية شاملة لنتأكد من زيادة معدل انتشار المرض من عدمه أولا، ثم ندرس الأمر جيدا لمعرفة أفضل الطرق للصرفالمادى لمواجهة المشكلة ، هل بتطوير المستشفيات أم بزيادة أعداد الأطباء أم بالصرف على شراء الأدوية أم بتطوير أجهزة العلاج الإشعاعى، و لأن ميزانية الدولة محدودة فلابد أن نقدر أفضل الطرق للصرف و تحديد أفضل نسبة للصرف على كل بند من البنود السابقة، و يُتخذ هذا القرار بعد تجميع الأدلة و البحوث المعتبرة فى هذا الباب و تحليلها احصائيا بشكل "تجميعى" لمعرفة أنسب الحلول المطبقة فى العالم ثم اسقاطها على الواقع المحلى ، و هناك طريقة أخرى لاتخاذ القرار اعتمادا على الدليل عن طريق القيام ببحوث صغيرة على بعض المستشفيات المتشابهة في الظروف، فمثلا نصرف على كل مستشفى منهم نسبة أكبر في أحد البنود السابقة ثم نقيس حجم المخرجات الصحية و العائد على المجتمع قبل أن نعمم أنجح تجربة على مستوى الدولة، و لكن "الدليل"الذى اعتمدت عليه فى اتخاذ القرار فى الحالة الأولى يعد أقوى لأنه اعتمد على احصائية "تجميعية". بينمايأتىبعد ذلك فى ذيل قائمة قوة القراراتالاعتماد على رأى الخبراء المستقلين لأنه قد يستعصى عليهم فهم بعض النقاط الدقيقة و التى تحتاج إلى تخصص مختلف و من أمثلة ذلك الاستجواب الذى تقدم به اللورد البريطانىفيليبس عام2000عن اخفاق شديد فى تعامل الحكومةالبريطانية مع أزمة جنون البقر و إجراءات معايير السلامة آنذاك لتلافى حدوث العدوى ، و ذلكلعدم فهم الخبراء السياسيين الذين اعتمدت عليهم الحكومة البريطانية فى قراراتها لأبعاد المشكلة الطبية من حيث التقدير الحقيقى لإمكانية انتقال الفيروس من الحيوان إلى الانسان، و حينها اعترفت الحكومة البريطانية بالإخفاق فى التعامل مع الأزمة و وعدت بتحديث منظومة اتخاذ القرار بها ، أما عن مصر فالأمثلة أكثر من أن تحصى منها ما حدث فى مصر من ارتباك شديد فى التعامل مع أزمة أنفلونزا الطيور مما أدى إلى صرف كثير من الأموال و تعطيل الأعمال دون دراسة حقيقية لمدى خطورة المرض و جدوى الصرف على الأوجه المختلفة، فى مصر يبدو أن الساسة ليس لديهم أى اهتمام بتتبع الدليل و عرض أهداف القرارات على الشعب بشفافية. و قد يُظن أن الاعتماد على الدليل معرض للإخفاق نتيجةلاختلاف طبيعة الدول التىنعتمد على دراساتها و إحصائياتها عن طبيعة دولتنا و يمكن الرد على مثل هذا الظن بأن الإحصائيات فى هذه الحالة تكون "تجميعية" تضم عدد ضخم من عينات مشاركة فى البحثالتجميعى مما يقلل من نسبة تأثير العوامل الأخرى، و لكن هذا لا ينفى أنه يجب علينا بناء قاعدة معلوماتية مناسبة لظروف دولتنا، إننا حتى في مجال الطب و الذى سبق السياسة بعقود في تنظيم الاعتماد على"الممارسة القائمة على الدليل" ليس لدينا قاعدة مجمعة و منقحة ترشدنا إلى أفضل الطرق العلاجية بما يتناسب مع الطبيعة الإقتصادية بل و العرقية لسكان الدولة، ففي الدول التى سبقتنا يؤخذ في الإعتبار عند العلاج العرق أو الإثنية ، فالأمريكى الإفريقي المنشأ قد تختلف خطة علاجه عن الأمريكىالأوروبى نظرا للاختلافالجينى و أثره على امتصاص أو أيض الدواء بل و أحيانا نظرا للاختلافالثقافى الذى يؤثر على طبيعة الغذاء و تعارضاته مع الدواء أو المرض نفسه، و تكثر هذه التداخلات فى الأمور الاقتصادية و السياسية مما يجبرنا على ضرورة دعم هذه العلوم فى الجامعات لتوفير أكبر عدد من المتخصصين. والمشكلة الكبرى أننا لا نمتلك مراكز بحث استراتيجى كافية تقوم بتحليل إحصائى لجدوى القرارات السياسية و تصدر لنا توصياتها، بالإضافة إلى أننا لا نعلم مدى كفائة مراكز البحث الإستراتيجى الحالية و هل يوجد أدوات لقياس مدى فاعليتها و محاسبتها أم لا، و لذلك لابد من اشراك الجامعات فى صنع القرار لأنها تضم العدد الأكبر نسبيا من المتخصصين فى المجتمع، و بالتوازى يجب علينا اضافة مقررات دراسية عن الإعتماد على الدليل و طرق البحث العلمى و الإحصائىفى مرحلة التعليم الجامعى و ما قبلها. *مدرس بكلية الصيدلة – جامعة المنيا أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]