المتأمل فى أحوال العالم العربى والإسلامى اليوم، وخاصة فى تلكم البقع المضيئة، التى تفجرت فيها الثورات العربية والإسلامية، وترعرع فيها الربيع العربى، وخاصة فى مصر، يستطيع أن يدرك أن الصراع المحتدم القائم فيها، ليس صراعا طارئا بين شخص وآخر، ولا بين حزب وحزب، ولا بين فريق وفريق، وإنما هو حلقة من حلقات الصراع القديم، الذى وجد على ظهر البسيطة منذ أن خلق الله الإنسان عليها، إنه صراع الحق والباطل القديم، والذى سيظل محتدما إلى قيام الساعة، هذا الصراع الذى تمت الإشارة إليه حتى قبل أن يوجد أبينا آدم، عندما علمت الملائكة بخبر خلقه وجعله خليفة لله فى هذه الأرض، وذلك فى قوله تعالى : " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " البقرة آية رقم 30 . وابتدأ الصراع بين الحق والباطل فى أولى حلقاته بين أبناء آدم أنفسهم: قابيل وهابيل، فى أول جيل من أجيال هذه البشرية، حينما قدم كلا منهما قربانا، وتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وقد سجل الله عز وجل صورة هذا الصراع فقال : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ " المائدة الآيات 27 : 30 . وابتداءً من هذا العهد دارت عجلة الصراع بين الحق وبين الباطل، وأخذت تمر فى كل جيل، وتظهر فى كل قرن، مرورا بعهود الأنبياء جميعا، ومنها عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى زماننا وجلينا اليوم، لنشهد بدورنا هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذا الصراع بين التيار الإسلامى من جهة وبين التيارات المعادية للإسلام أو غير الإسلاميين من جهة أخرى. والعجيب فى هذا الصراع أن مواقف المعادين للحق تكاد تكون واحدة أو مكررة، أو كأنها مواقف أو وصايا يأخذها ويرثها بعضهم من بعض، مصداقا لقول الله تعالى " أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ " الذاريات آية رقم 53 . ويذكرنا موقف المعارضة اليوم فى مصر والمعادين للتيار الإسلامى، بموقف المعادين والمعارضين للنبى صلى الله عليه وسلم فى مكة، حينما رسخ عندهم اليقين بصدقه، لكنه مع عنادهم واستكبارهم لا يسلّمون له، ولا يؤمنون به، ولا يقرون بالحق الذى معه . ومما يروى فى ذلك ما ذكره ابْنُ إسْحَاقَ فى سيرته: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا. فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ: فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا، وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا والَّذِي حَلَفْتَ بِهِ (كَذَلِكَ). ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إذَا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرَّكْبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ، وَاَللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. وتظهر عندئذ المعضلة التى يتوارثها أعداء الحق جيلا بعد جيل، وهى العناد والإصرار والتناطح والاستكبار، إنهم يعرفون أنه الحق ولكن لا يتبعونه استكبارا وعنادا، ومع الفارق الكبير فى المشهد بين أعداء النبى من المشركين وأعداء الإسلاميين اليوم الذين هم من جلدتهم وعلى دينهم لأننا لا نكفر أحدا، إلا أن مواقف الأعداء متشابهة، فأعداء التيار الإسلامى اليوم يدركون تماما أن الحق مع الإسلاميين، وأن الشرعية هى التى قدمتهم، وأن القانون لصالحهم، وأن الشعب فى صفوفهم، وأن الديمقراطية هى التى أنتجتهم، وأن الاستحقاقات الانتخابية التى دارت فى مصر وكانت على درجة كبيرة من النزاهة والشفافية هى التى أوجدتهم وجعلتهم فى مقدمة المشهد بل وفى سدة الحكم. ولو حدث ذلك مع غير الإسلاميين لمرت الأحداث بسلام، ولأشادوا بالديمقراطية، والحياة السياسية عموما فى مصر. لكن أما أن تأتى الديمقراطية بالإسلام فلا، وأن تقدم الإسلاميين إلى سدة الحكم فلا وألف لا .. وأما أن تكون الأغلبية للإسلاميين فى البرلمان فأيضا لا .. وكأنهم يقولون فيما بينهم نوقن بأن ذلك هو الحق ولكن لا نسلم به ولا نصدقه ما حيينا . وهذه هى حقيقة وطبيعة المعركة بين أتباع الحق واتباع الباطل فى كل زمان . د. محمود السيد داود أستاذ القانون الدولى العام بجامعة الأزهر الأستاذ المشارك بجامعة البحرين [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]