كلما اقتربنا من فترة انتخابات مجلس الشعب ، فضلا عن الانتخابات الرئاسية ارتفعت وتيرة الحرب من قِبَل الدولة على الإخوان المسلمين ، بمختلف مظاهر الحرب ، بالتجسس والتنصت ، وبالمصادرة ،وبالاعتقال والسحن ،والإقصاء لكل من يمت إليهم بصلة ، في أى موقع من المواقع ، حتى بين طلاب الجامعات والمعلمين والدعاة ، فمن يُشتم منه علاقة ، لابد من إبعاده ، هذا في أحسن الأحوال ، إن لم تُدبر له " قضية " يلبسها ليتم اعتقاله ، فإذا ما كشف القضاء العادل زيف القضية وحكم بالبراءة والإفراج ، إلا أن هناك العصا الغليظة التي يمسك النظام بها منذ 1981 ، قانون الطوارئ ، ليُخرج بذلك لسانه للقضاء. بل امتد الأمر إلى فئة ثانية ،وهم من يصورونهم أنصارا للإخوان حيث إنهم ليسوا من تنظيمهم ، ثم يبلغ اللدد في الخصومة حده الأقصى ، فتصل الشبهة إلى فئة ثالثة ، هم من يستشعرون ظلما وافتراء في عدد من هذه الخطوات التي أشرنا إلى بعضها فيتحدثون أو يكتبون مستنكرين ، من زاوية الدفاع عن الديمقراطية وحق الإنسان في التعبير عن رأيه ،وليس دفاعا عن الجماعة فى حد ذاتها ، ويترتب على هذا مخاصمة ومناكفة وإقصاء ، حيث يقع كاتب هذه السطور في هذا الفئة الثالثة ، ويصدق المثل الشعبى القائل " ما ينوب المِخَلّص إلا تقطيع هدومه " !! ولو جمّعت نماذج مما يذاع على القنوات التلفزيونية ،ما يكتب في الصحف الحكومية ،وما يصدر من تصريحات رسمية ، أو قريبة من الرسمية ، وأخضعتها للتحليل الكمى والكيفى للمضمون ، فسوف تجد وكأنك أمام :صورة أناس من ذوى العقول الجامدة ، الناظرين إلى وراء ، يريدون شرا بالوطن ، يسعون إلى تمزيق عرى الوحدة الوطنية ، يهدفون إلى تعطيل نصف المجتمع من النساء ، يخربون العلاقات الدولية التي جاهدت القيادة السياسية عبر تسع وعشرين سنة في بنائها ، يُعطلون جهود التنمية ، حيث يُطَفشون الاستثمارات الأجنبية ...وما سار في هذا الاتجاه السوداوى المخيف المفترى. فإذا سلمنا جدلا بكل هذا ، ولو على مضض ،فلابد أن يسعى المواطن إلى أن يأمل في عكسه من قوى سياسية أخرى ، وهى التي تتمثل في أحزاب سياسية تجمع الأنصار الذين يجمعهم رابط عام مشترك ، حتى لو تباينوا في أساليب العمل والتنفيذ ،وبعض القضايا الآنية ..وكل هذه القوى ، بعيدة تماما عن كل ما يقال عن الإخوان ، مما يبشر بأن تُفتح لها الأبواب ،وتُمهد لها الطرق ، فهل هذا ما يحدث بالفعل ؟ الإجابة بالنفى تأكيدا ، وللبرهنة على ذلك ، نحتاج إلى صفحات طويلة ، فضلا عن أننا وغيرنا ، سبق أن فصّلنا الحديث فيها عشرات المرات . والأحزاب القائمة تنقسم إلى فئتين ، الأولى ، هى ما يسميه البعض : الأحزاب الكبيرة ، وهى لا كبيرة ولا يحزنزنون ، وربما بحكم تاريخها يقال هذا ، مثل الوفد ،والناصرى، والتجمع ، لكنها في واقعها ، كما نعلم جميعا ، مساحة نفوذها لا تتعدى مساحة المقر ،وبعض قراء الجريدة التي يصدرها الحزب ، أما أن تلتحم بالجماهير ، فيعقدون المؤتمرات ،ويلفون القرى والمدن والنجوع ،وتفتح لهم أبواب الإعلام المفروض أنه " قومى " ، لكنه في واقع الأمر " رسمى " ، فهذا ممنوع ( طبعا باستثناء الدكتور رفعت السعيد !!)، لأن هذا يُقويهم ،وبالتالى يرى المصريون فى هذا أو ذاك بديلا ثالثا . هنا ، لا يبقى أمام المواطن المصرى إلا حزب الدولة ، المسمى بالحزب الوطنى! وهكذا يقع المواطن المصرى بين فكى الراحة : الإخوان ، بكل ما أشرنا إليه من رجعية وظلامية وإرهاب وتقهقر وعنف ( كما يدّعون عليهم )، أو الحزب الوطنى ، بما " يشيعه الأعداء الحاقدون " ( كذا) عنه من أنه حزب البيع والهبر والسرقة والاستبداد والاحتكار ؟ هنا يجد المواطن نفسه أمام اضطرار أن يرضى بالاختيار الثانى ،ولو على مضض ، لكن هل حقيقة لابد من هذا أو ذاك ؟ في رأيى ، أنه لا هذا ولا ذاك ... فعلى الرغم من مشاركة مثلى للمرجعية الفكرية للإخوان ، إلا أننا يمكن أن نفترق إزاء " الممارسة " التى لها شأن آخر ،بحكم الظروف التى عاشتها الجماعة – ولا تزال - فالجماعة التي تقضى كل وقتها تفكر وتحاور وراء الأسوار ،وخلف الأبواب المغلقة ،وتحت وطأة المداهمة البوليسة والاعتقال والسجن والتشريد ،والإنعدام شبه التام لخبرات الممارسة السياسية ، وانسداد كل سبل إذاعة الفكر ،وتلقى ردود الفعل المغايرة والتحاور معها ،وبالتالى تعدد فرص التطوير والتعديل والتغيير والتوافق مع متغيرات الدنيا من وقت لآخر ،ومحصلة التجربة العملية ، كل هذا لا يُدخل الطمأنينة في القلب من النتيجة ،ومستقبل الوطن ليس بحاجة أن نعرضه لمخاطر التجريب . إنهم يعيشون هذه الأجواء منذ خمس وخمسين عاما على وجه التقريب ،والفترات التي أتيحت لهم لمجرد التعبير عن الرأى بقدر من الحرية ، قليلة للغاية ومتقطعة ،ومحدودة . حتى ، هذا الكم المخيف من الأقوال والكتابات المضادة لما يقولون ، لا يجدون فرصة متاحة ليردوا ويناقشوا ، إلا فيما ندر ، ربما عبر دقائق معدودة على بعض الفضائيات غير المحلية ،وبالنسبة لواحد أو اثنين أو ثلاثة ، مما يقل دائما عن أصابع اليد الواحدة . إن العمل السياسى مثله مثل السباحة ، ولكن فى مياه البحار والمحيطات ، لا الأنهار وحمامات السباحة ، لا يكفى فيها أبدا أن تحمل فكرا – مهما عظُم - عن أصول السباحة ،ولا أن تحفظ قواعدها ،ولا تشكل تنظيما لممارساتها ، ولكن لابد من الممارسة ،والتدريب بغير انقطاع ، فإذا انقطعت عن الإخوان سبل الممارسة والتدريب والتسابق والتجهيز والحوارات العلنية المأمونة مع الأغيار، فكيف نُطمئن الآخرين ونُطمئن أنفسنا إلى أنهم يمكن أن ينزلوا بنا بحر الحكم ، المتلاطمة أمواجه ؟! إن علماء الأحياء ينبهون دائما على أن النبات ، إذا انقطعت عنه سبل الرى والتغذية والهواء والشمس ،وفرض عليه الإظلام والتخفى ، لابد أن يصاب بتشوهات وقصور نمو ،وربما ما هو أشد من ذلك وأخطر ...وهكذا البشر على المستوى الفردى ، وهكذا التنظيمات الاجتماعية على المستوى الجماعى . فإذا ما جئنا إلى الطرف الآخر ، حزب الدولة ، الوطنى ، فإن كل المؤشرات التي أحاطت بنشأته وممارساته تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، أنه خطر داهم على الأمة ،وشر مستطير ،وهذا يحتاج إلى صفحات لمزيد بيان ، لكن يكفينا هنا أنه نشأ في أحضان السلطة وترأسه منذ النشأة رئيس الدولة ،وهو الذى اختار لنفسه أن يرأس الحزب ،وفى ظل نظام اجتماعى ، تمتد جذوره إلى آلاف السنين ، فإن هذا يجعل كل من ينتمى إلى هذا الحزب ، تفتح عليه الأبواب على مصراعيها للتشكيك في جدارته وإخلاصه ، فالكثرة الغالبة تتطلع إلى جزرة الحاكم ، وتخشى عصاه ،ومن هنا فلربما كان هناك بعض يخلص في نيته ، لكن الكثرة ، يستحيل أن تكون كذلك ،ومن أبرز البراهين ، أن السادات عندما أنشأ هذا الحزب ، وكان رئيس الوزراء ( ممدوح سالم ) يرأس حزبا رسميا هو حزب مصر ، إذا بالرجل يجد الجميع يهرعون إلى حزب رئيس الدولة ويتركونه وحيدا لا حول له ولا قوة ، وهو رئيس وزراء ، فما بالنا لو كان من خارج نظام الدولة ؟ ! ويكفى مثالا آخر ، أنه ممنوع منعا باتا اقتراب أى حزب ، حتى من خلال مجرد لقاء فكرى ، أن يقرب من مئات الآلاف من طلاب الجامعة ، لكن ، يجوز هذا تحت مظلة حزب الدولة ، حتى لقد وصل الأمر إلى اغتصاب مبنى بجامعة القاهرة كان معدا لمعهد الدراسات التربوية ،لصالح جمعية يراسها ابن رئيس الدولة !! وكيف نثق بتنظيم سياسى ، كل أجهزة الدولة مسخرة له ؟ بل ومئات الملايين من ميزانية الدولة ،وهو الذى يستبد ، عنوة وغصبا ، بأغلب مقاعد مجلس التسريع ، فيصدر من التشريعات ما تريده السلطة ،ويرفض ما لا تراه ، فضلا عن مساندة المليارديرات والمليونيرات (الذين وصلوا إلى مستوياتهم المالية ، لا بعرق ودم ودموع ومشقة ، وإنما بسبل معظمها ، يجعل ما يملكون يدخل فى باب المال الحرام) أملا في التسقيع والفوز بكعكة بعض المشروعات والاستثمارات والمميزات ، مما يتيح لهم فرصة السيطرة على توجهات الحكم ، بعيدا عن سلطة المستضعفين في الأرض من ملايين الفقراء ؟ إن الديمقراطية الحقيقية تقوم في أحد أركانها الأساسية على مبدأ حرية الاختيار ، فإذا وجدنا على المسرح المعد للمسابقة فردا واحد ، سواء كانت المسابقة فى كمال الأجسام أو بين أحسن الأصوات أو غير هذا وذاك من موضوعات التسابق ، المشروع وغير المشروع ،فكيف لى أن أعرف أنه الأفضل والأحسن بحيث أختاره ، ما لم تتساوى الفرص أمام الآخرين في الالتحاق بالمسابقة ؟ النتيجة التي نخرج بها من كل هذا أنه لا الإخوان – فى ظل الظروف الحالية -ولا حزب الدولة يصلح لقيادة البلاد في الفترة التالية . فما البديل ؟ نضع النظام القائم في اختبار صدق ، فإذا كان حقا يرفع شعرا التعددية والديمقراطية والشفافية ، فلتتكاتف الجهود الوطنية للنخبة وللجماهير لرفع القيود القائمة على حركة الأحزاب ،وبالتالى تتاح فرص لتطوينات جديدة أكثر تعبيرا عن اتجاهات المواطنين ، كما تتاح للقائم منها بالفعل فرصة النمو والنضج والالتحام بالناس ، ويشهد تجديدا لخلاياه ،وبث دماء قوة وصحة وعافية في عروقه ، فيبرز من هذا وذاك البديل . فإذا ما رفض النظام القائم هذا ، وهو الأمر المتوقع ، لأن فيه سقوطه ديمقراطيا ، فلابد أن تتقاطر الناس للالتحاق بأقرب التنظيمات القائمة ،سلامة وجدية، حتى يتحقق لها النمو القوة ،وعندها يمكن للجماهير الغفيرة أن تنتزع ما لها من حقوق إجبارا للنظام القائم ،وأيضا بغير عنف ، ننقول هذا إيمانا بهذا النهج السلمى ، لا خوفا من أن يتهموننا بالتحريض على الانقلاب والثورة ،وسبل المقاومة السلمية ، كثيرة وفعالة ..فقط ، تحتاج إلى الهمّة ،و العزم ، والإيمان ، وإلا فعلى نفسها جنت براقش !! ويحق القول بأن شعبنا يستحق ما يحدث له ، فلا يلومن إلا نفسه!! البريد الألكترونى [email protected]