الجالية، المقصود بها هؤلاء الذين جلوا عن أوطانهم، ويعيشون فى وطن غير وطنهم. وقد مارس أعضاؤها أنشطتهم، وربطت بينهم قيمهم المشتركة وعاداتهم التى ورثوها عن أوطانهم الأصلية. والجاليات الأجنبية فى أى بلد غالبًا ما تكون إضافة، إذا أُحسن توظيفها، ومعوقًا إذا غضت السلطات، التى يقيمون على أرضها، النظر عن أنشطتها. فهم فى هذه الحالة، إما جسرًا للعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع بلدانهم، أو جواسيسًا وعيونًا لدولهم ومن يستخدمهم. وتاريخ الجاليات الأوروبية عندنا فى مصر تاريخ طويل، نستشهد منه بآخر قرنيين، 19 وال20، لنتبين أوجه الاستفادة فى السابق، لنبنى عليها الإمكانية فى اللاحق. ولنتعرف على الأخطاء الواردة فى الماضى ونتفادها فى المستقبل. فقد شجع وصول محمد على للحكم فى بداية القرن 19، قدوم هجرات متعددة من شعوب البحر المتوسط إلى مصر. فمدينة الإسكندرية على سبيل المثال، اجتذبت يهودًا غربيين وأجناسًا أوروبية متعددة. أسسوا بعض الصناعات، وعملوا فى مشروع قناة السويس فيما بعد، واقترضوا من بنوكهم الأوروبية. ومع هذا التشجيع للأجانب بدأت الجاليات الأوروبية تتوافد بكثرة. فبلغ عدد أفرادها سنة 1843 حوالى 6150 فردًا. منهم 2000 يونانى و2000 إيطالى وألف مالطى و800 فرنسى و100 إنجليزى و100 نمساوى و30 روسيًا و20 أسبانيًا و100 من أجناس مختلفة. وزاد عددهم فى عهدى سعيد وإسماعيل حتى وصل سنة 1871 إلى حوالى 79696 فردًا. منهم 34 ألف يوناني و17000 فرنسى و6000 إنجليزى و13906 إيطاليين و6300 نمساوى و1100 ألمانى و150 أسبانيًا و127 روسيًا 533 هولنديًا و40 سويديًا ودنماركيًا وبرتغاليًا وأمريكيًا و500 من جنسيات أخرى. وزاد عددهم مع الاحتلال البريطانى حتى وصل سنة 1897 إلى 113 ألف أجنبي. فى حين وصل عدد اليهود سنة 1882 إلى حوالى 10 آلاف يهودى، وارتفع إلى 25200 سنة 1897. ووصل عدد أفراد الجاليات الأوروبية عمومًا سنة 1918 إلى نحو 330 ألف نسمة في بلد يبلغ تعداد سكانه 13 مليون نسمة. وظل يتصاعد طيلة فترة الاحتلال البريطانى لمصر. تحكمت هذه الجاليات فى تجارة البحر المتوسط وتجارة المدن والدواخل المصرية تمامًا، خلال القرن 19 وطيلة الفترة الاستعمارية. ولعل ادخالهم للمفاهيم والمصطلحات والأساليب الغربية فى المعاملات التجارية، وإحلال مفردات اللغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية فى كثير من مفردات النشاط الاقتصادى المصرى، يشير لهذه السيطرة التجارية ويقطع بها. الجاليات هى التى تسببت فى الاستدانة المصرية من الخارج، وتسببت فى التبعية الاقتصادية والاستعمار البريطانى لمصر، وفى تغيير كثير من عادات الناس وأخلاقهم وثقافتهم. وأمسكت بمقدرات البلد وجعلت الأقليات اليهودية والمسيحية مسيطرة عليه اقتصاديًا وسياسيًا. لكن مع عمليات التمصير التى تمت قرب الاستقلال، ورجوع غالبية أفراد الجاليات لبلدانها الأصلية بعد رحيل المستعمرين، ظلت بقية منهم يتربعون على المشهد الاقتصادى، متحالفين مع الأقباط، بعد هجرة اليهود. وعلى هذا ورثت مصر تركة ثقيلة من العلاقات السرية والعلنية منذ الفترة الاستعمارية وحتى الآن. فمن بقى من أفراد الجاليات الأوروبية، ومع تزايد أعدادهم فيما بعد، عادوا يمارسون ذات الأدوار السابقة مع رجال الأعمال المسيحيين، ومن يتم انتقاؤهم بعناية من المصريين، ليتم تصعيدهم اقتصاديًا وإعلاميًا وسياسيًا. تارة فى داخل مصر، وتارة فى خارجها. وهؤلاء بالتنسيق مع الخارج، وعبر فرض خطط التكيف الهيكلى، تمكنوا من شراء القطاع العام بأرخص الأسعار. وأمسكوا البلاد والعباد من رقابهم، فحدث ما حدث. ومن ثم فإن الاستفادة من الجاليات لم تحدث طيلة الثلاثين عامًا السابقة. فقد خلقوا رجال أعمال من شاكلة خاصة، فصبت الاستفادة فى جيوب هؤلاء فقط، ليقودوا البلد إلى الهلاك والدمار الذى حدث. المفروض أن تعى تلك الجاليات أن المصلحة تقتضى إفادة البلد الذى يسكنونه وليس أفراد بعينهم. فالبلد باقٍ لهم ولأولادهم، والأفراد راحلون لا محالة. ودور الجاليات المصرية فى الخارج مثل مهم، ليقتدوا به فى قادم الأيام. فالجالية المصرية فى أى بلد، لا يهمها تفصيل طبقة معينة تحكم هذا البلد الذى يعيشون فيه أو ذاك وتتحكم فى أرزاقه ومستقبله. وبالتالى مطلوب من هؤلاء أن يراعوا حق البلد الذى يعيشون فيه، وسكانه الذين أكرموهم وأحسنوا عشرتهم. ولا يجندوا قواهم الخارجية والداخلية من أجل صناعة فئة معينة مسيطرة، تخدم مصالح دولهم وأعراقهم. كثيرون منهم رجعوا إلى بلدانهم عقب قيام ثورة 25 يناير 2011، بعد أن حققوا من مصر ثروات طائلة وشعروا بالخوف على مستقبلهم، فبقيت أعداد قليلة منهم. غير أن فترة عدم الاستقرار التى أعقبت الثورة أخرجتهم من النعيم الذى كانوا يعيشون فيه. ومع الاستقرار الذى ننشده لبلدنا، هناك إمكانية لعودة الكثيرين منهم، لكن ليعلموا هذه المرة، أنهم إذا عادوا لأفعالهم السابقة سنعد، وسنطردهم هذه المرة بلا عودة. لكن إذا عادوا واستثمروا فى بلادنا، دون الارتباط بأجندات خارجية، فأهلًا بهم ومرحبًا، وليدخلوا مصر إن شاء الله آمنين. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.