تصاعد الحديث عن يهودية "إسرائيل" الآن أمرٌ طبيعيٌ وينسجم مع طبيعة الكيان الإسرائيلي الإستعماري الذي اغتصب فلسطين بمساعدة القوى الكبرى. فهذا الكيان، في جوهره، مشروعٌ استعماريٌ له وسائل مختلفة للتطبيق وخطط زمنية للتنفيذ. وفكرة "يهودية الدولة" تتصل بركيزة أساسية في المشروع الصهيوني هي إيجاد "هوية يهودية مشتركة" وطمس "الهوية العربية القائمة". اليوم سنتحدث عن ما هية الفكرة وأهدافها وأسباب تصاعد الحديث عنها، على أن نتاول لاحقًا من يتولى عملية التهويد وكيف يتم التهويد. "يهودية الدولة" تفترض وحدة يهود العالم وأن الكيان الإسرائيلي يعبر عن إرادتهم وآمالهم ومستقبلهم، وهذا أمر غير حقيقي لعدد من الأسباب، أهمها: أولا: ليس هناك شعب يهودي واحد وإنما جماعات يهودية مختلفة العادات والعرق واللغة والتاريخ. إنّ عبارة "الشعب اليهودي" من الأساطير التي أبدعتها الحركة الصهيونية لتبرير المطالبة بوطن قومي (ثم بدولة يهودية) لشعب ادعت الحركة أنه شعب واحد وادعت أيضا أنه يتعرض للاضطهاد أينما وجد.. وبدون هذه الأساطير ما كان للحركة الصهوينة أن تنجح في جذب أنصار لها من الأقليات اليهودية في المجتمعات الأوروبية، ولا في ضمان دعم الدول الأوربية لأهداف الحركة. ثانيًا: لم يحسم اليهود المستعمرون في فلسطين مسألة "من هو اليهودي؟" داخل هذا الشعب المزعزم حتى يتحدثوا عن يهودية الدولة. فهناك رؤى يهودية مختلفة حول من يمكن الاعتراف بيهوديته، وقانون العودة ينص على أن اليهودي هو "من ولد من أم يهودية أو تحول إلى اليهودية ولم يعتنق دينًا آخرا".. ويريد التيار الديني المسيطر في الكيان الإسرائيلي إصافة "حسب الشريعة اليهودية" لعملية التحول إلى اليهودية، وهذا أمر ترفضه تيارات يهودية أخرى تمثل أغلبية الجماعات اليهودية في الخارج وخاصة في الولاياتالمتحدة. ثالثًا: "إسرائيل" هي البلد الوحيد الذي يُقنن العنصرية تجاه كل من هو غير يهودي. وفكرة نقاء الدولة التي تقوم عليها فكرة "يهودية الدولة" تعني طرد كل الفلسطينيين من مسيحيين ومسلمين وغيرهم. وهذه الفكرة تُرفع اليوم بكل حسم لإنهاء حق العودة نهائيًا حسب قرار 194 الصادرعن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 والرامي إلى عودة اللاجئين وتعويضهم (وليس عودتهم أو تعويضهم). وهذه الفكرة العنصرية تتناقض مع أسس الدولة القومية الحديثة التي تقوم على قبول الآخر والتعايش معه والتساوي معه أمام القانون، وتتناقض أيضًا مع فكرة العلمانية التي استفادت منها الحركة الصهيونية والجماعات اليهودية في أوروبا والتي من خلالها تحررت هذه الجماعات وانعتقت بعد قرون من التمييز والاضطهاد الذي مارسته المجتمعات الأوروبية المسيحية في عصور الظلام ضد الآخر (الأقليات الدينية والعرقية..). رابعًا: وبالإضافة إلى ما سبق، يعيش في الكيان الإسرائيلي نحو ربع يهود العالم فقط، بل وهناك هجرة عكسية منه، على وضع يجعل صافي الهجرة إلى الكيان ومنه سلبيًا في بعض السنوات كما في حدث في أعوام 1953 و1980 و1981 و1982 و1985 و1986 و1987 و1988. وقدّر الكتاب الإحصائي السنوي الإسرائيلي بأن نحو 14 ألف إسرائيلي يغادرون "إسرائيل" سنويًا خلال الفترة من 1990-2005. وفي عام 2003 قدّرت وزارة الهجرة والإستيعاب أن نحو 750 ألف إسرائيلي يعيشون في الخارج وخاصة في الولاياتالمتحدةوكندا (أي نحو 12.5% من الإسرائيليين اليهود في الكيان الإسرائيلي). وقد أشار يوني جولدشتاين (وهو كاتب وأحد زعماء الجالية اليهودية في كندا) في صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 13/10/2007 أن نحو 85% من اليهود في مدينة مونتريال- التي تضم أكبر تجمع لليهود في كندا- هاجروا في الأساس من "إسرائيل". خامساً: يواجه الكيان الإسرائيلي اليوم معضلة لا مثيل لها تتصل بما سبق، فهناك تفوق ديمغرافي فلسطيني وهناك تراجع لعوامل الجذب مع تصاعد المقاومة الفلسطينية وتناقص أعداد اليهود وتزايد معدلات إندماجهم نتيجة الزواج المختلط. ولهذا تتجه الوكالة اليهودية، التي تتولى أمر تهجير اليهود، إلى الدول الغربية لتهجير الجاليات اليهودية منها. وقد وضع أفيجدور ليبرمان (عندما كان وزيرًا لما سُمي وزارة الشؤون الإستراتيجية في حكومة أولمرت عام 2006) خطة لتهجير يهود فرنسا البالغ عددهم 700 ألف نسمة، غير أن البعض في فرنسا وإسرائيل عارضوا هذه الخطة على أساس أن من مصلحة إسرائيل وجود جالية يهودية مؤثرة في فرنسا. وبالمثل، حذرت قيادات يهودية في الولاياتالمتحدة - التي يعيش فيها نحو ستة ملايين يهودي – في مؤتمر "مركز تخطيط الشعب اليهودي" الذي عقد في القدسالمحتلة عام 2007 من خطورة تهجير يهود أمريكا الشمالية إلى إسرائيل لأن وجود اليهود في شمال أمريكا يحقق مصلحة إسرائيل بسبب نفوذهم في مؤسسات ودوائر صنع القرار في واشنطن. وهذا أمر حقيقي لأن التحالف مع القوى الكبرى وضمان دعمها من ثوابت المشروع الصهيوني كمشروع استعماري. إن فكرة "يهودية الدولة" ليست فكرة طارئة أو جديدة وإنما هي فكرة راسخة في المشروع الصهيوني منذ نشأته، فأول رابطة سميت رابطة الإستعمار "اليهودي" عام 1891 والتي أسسها المليونير الألماني البارون موريس دي هيرش، وكتاب مؤسس الحركة الصهيونية تيودورهرتزل اسمه الدولة "اليهودية" عام 1896، وكانت قرارات المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897 تتضمن تشجيع الاستيطان "اليهودي" في فلسطين وتأسيس الصندوق القومي "اليهودي". ووعد بلفور تحدث عن إيجاد وطن قومي "لليهود" في فلسطين. أما قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 فنص على وجوب قيام دولتين دولة "يهودية" وأخرى عربية. وفي كتابه عن تاريخ الهاغانا (العصابة المسلحة التابعة لحزب الماباي – حزب العمل الآن- والتي تحولت مع غيرها من العصابات إلى جيش عام 1948) كتب ديفيد بن غوريون عام 1954 إن "في بلادنا مكان فقط لليهود وسوف نقول للعرب اخرجوا، فإذا لم يخرجوا وإذا قاوموا فسوف نُخرجهم بالقوة". وفي القوانين الإسرائيلية تضاف دومًا كلمة "يهودي" الأمر الذي يجعل معظم هذه القوانين قوانين عنصرية على أساس الدين، وذلك لأنها تربط بين تقديم الخدمات والمعونات والمنح المالية وبين كون المستفيد يهوديا.. وأبرز هذه القوانين العنصرية قانونا العودة والجنسية الذان يسمحان لليهود فقط بالذهاب إلى فلسطين والحصول على جنسيتها دون شروط تذكر بينما تنكر على الفلسطينيين هذا الحق وهم الذين يعيشون هناك منذ قرون. الحديث عن يهودية الدولة بهذا الشكل السافر يرتبط بعدة أسباب يأتي على رأسها بالطبع ضعف الجانب العربي وتقزمه وانقسام الصف الفلسطيني وتشرذمه، ومن ثم انشغال الفلسطينيين والعرب بالحديث عن ذاك الضعف وتلك الانقسامات. غير أنه توجد عوامل أخرى مهمة، يتصل بعضها بالمجتمع الإسرائيلي ذاته مثل تزايد الشعور بالقلق داخل الكيان الإسرائيلي جرّاء التفوق الديمغرافي الفلسطيني، وتصاعد تفاعل فسطينيي 1984 مع قضايا الصراع، وارتفاع وزن المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، العسكرية والشعبية وعلى كافة الأصعدة المحلية والاقليمية والدولية. هذا بجانب تصاعد نفوذ التيارات اليمينية المتشددة وتصاعد مطالبها، إما ببناء الهيكل وهدم الأقصى كما تطالب التيارات الدينية، أو بهيمنة اليهود وطرد العرب نهائيًا كما تطالب التيارات اليمينية المتطرفة، أو بالهدفين معًا عند البعض.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك إجماع أو مشترك صهيوني يجتمع عليه من يُسمى اليمين واليسار في الكيان الإسرائيلي، ويتضمن هذا المشترك: طبيعة المشروع الصهيوني كمشروع استعماري - تعزيز أمن الدولة وتفوقها - البقاء على حالة العداء للعرب والقضاء على أي مقاومة مسلحة – استمرار التحالف مع القوى الدولية الكبرى. مواجهة هذه الهجمة الصهيونية الإستعمارية لابد أن تكون من خلال القضاء على الإنقسام الفلسطيني وتحقيق التضامن العربي، فالقوة لا توقفها إلا قوة مضادة لها. وإلى أن يتحقق هذا لا يجب أن يتوقف كل قادر على المساهمة في دعم كل الأنشطة التي تُسهم في التمسك بالثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني، الثوابت التاريخية والقانونية والدينية، وعلى رأس هذه الأنشطة تأتي عمليات توعية الأجيال الجديدة- التي نشأت في زمن الهزيمة وهيمنة الإستبداد وخضعت لعمليات تسميم سياسي مكثفة- بأبجديات الصراع والدفاع عن المقاومة بكافة أشكالها وتعزيز شرعيتها جماهيريًا ودوليًا وإعلاميا. * قسم العلوم السياسية – جامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net