هالني كما هال الملايين من المسلمين تلك السخرية الفجة التي أصبحت السمة الغالبة في تعاطي ضيوف برامج التوك شو من العلمانيين فضلًا عن كتاباتهم مع مقولات العلماء والمشايخ والدعاة وكأن ما يقولونه طرفة تثير ضحك هؤلاء واستهزائهم بشكل مستفز لم يعد يراعي حرمة الدين كما لم يراع مشاعر الأغلبية التي أضحت في ذيل اهتمامات من يوصفون بالنخبة بعد أن أصبحوا – رغم أقليتهم – الصوت العالي. وعلى الرغم من أن ظاهرة السخرية من الإسلام والدعاة تعود لعقود مضت كونها أثر من آثار الغزو الثقافي للاحتلال الإنجليزي الذي طالت مدة بقائه لنحو 70 عامًا (1882م – 1952م) إلا أنها بقيت محصورة في أطر خاصة مثلت ساحة للصراع بين المتغربين وبين المدافعين عن الهوية الإسلامية بل إن مظاهر السخرية كثيرًا ما جاءت متخفية وخجولة في بعض هذه الأطر فعندما كانت تتناول مثلًا بعض الأعمال السينمائية نموذج الرجل المتدين "الشيخ" فإنها كانت تحاول أن تركز سخريتها على تنطعه وتناقض قوله وفعله وإهمال ملبسه أو محاولاته المتعسفة للتحدث بالفصحى وهو أمر ربما لا يمس جوهر الدين بقدر ما يقلل من شأن المتدينين. أما اليوم فقد بات الأمر مختلفًا لحد كبير حيث تفشت الظاهرة كوباء فاتسعت دائرتها وتعددت أغراضها ما دفع الكثير من العلماء والدعاة للانشغال بالرد والدفاع وكأنهم في موقع المتهم وبدا هؤلاء الساخرون اللابسون لثيابنا والمتحدثون بلساننا وكأنهم طابور خامس يصطف في خندق أعداء الإسلام من أهل الغرب الذين كانت السخرية من الدين وسب رسوله أسلحتهم أيضًا في الحد من الانتشار السريع للإسلام في بلدانهم خشية أن تتحول أوروبا وخلال عقود قليلة للإسلام. والمتأمل في الظاهرة في الوقت الحالي يلحظ أربع سمات هي: الأولى: أنها أحد أدوات الحرب الإعلامية التي يستخدمها أعداء التيار الإسلامي خاصة في المعارك السياسية كالانتخابات بهدف تشويه صورتهم والتقليل من شأنهم وتصويرهم على غير حقيقتهم وتخويف الجماهير منهم. الثانية: أن مروجيها يسوقون لأنفسهم وكأنهم على قدم المساواة مع علماء الدين ودعاته بادعاء أنهم أكثر فهمًا ووعيًا بجوهر الدين ومقاصده على الرغم من أن هؤلاء لا يعرفون – بلا مبالغة – الفرق بين فرائض الوضوء وسننه بل إن الكثير منهم لا يستطيع أن يقرأ صفحة واحدة من المصحف قراءة صحيحة في حين يذهب بعضهم للقول بأنهم أكثر تدينًا وتقربًا من الله مع أن بعضهم أيضًا ربما لا يدخل المسجد. الثالثة: ذلك القدر غير المحدود من الترخص في السخرية فالأمر لم يعد مقصورًا على الطعن في الدعاة وسلوكهم بل امتد للاستهزاء ببعض القضايا الشرعية والمصطلحات الدينية ومن ذلك مثلًا ما تداولته مواقع التواصل الاجتماعي في إطار السخرية من وصول الإسلاميين للحكم ومنه "إن الإسلاميين لما يحكموا البلد سيحولون الطريق الدائري إلى الطريق المستقيم وسيغيرون طعم شرائح البطاطس بالملح ويجعلونها بالتمر وسيحولون منطقة مارينا لمارينا المنورة ويضعوا بعد كلمة "إنتر" كلمة إن شاء الله وسيغيرون رسالة الهواتف المحمولة من "كلمني شكرًا" إلى "كلمني جزاك الله خيرًا". بل وصلت السخرية إلى تخيل ما يعتزم الإسلاميون أن يفعلوه بأسماء الأفلام السينمائية فيتحول اسم فيلم (سلام يا صاحبي) إلى (سلام يا صاحبي ورحمة الله وبركاته) و(في بيتنا رجل) إلى (في بيتنا إخوانجي) أو (في بيتنا سلفي) و(أبي فوق الشجرة) إلى (أبي فوق المئذنة) و(التجربة الدنماركية) إلى (التجربة التركية) و(ليلة القبض على فاطمة) إلى (ليلة القبض على الأخت فاطمة) وهكذا. الرابعة: أن من غير المسلمين من تجرأ على السخرية بالإسلاميين ومن ذلك قيام أحد المذيعين النصارى باستضافة ناشط سياسي علماني وهو يصطحب خروفًا بهدف الاستهزاء بالإخوان الذين يرى أنهم كالخرفان في اتباعهم لمرشد الجماعة. كذلك خوض البعض في الحديث عن الإسلام وقيمه في إطار محاولات التشكيك فيما علم أنه من ثوابت الدين وظهر هؤلاء وكأنهم يفقهون الإسلام أكثر من علماء الإسلام وشيوخه ما عكس إلى أي مدى الاستهانة بعلوم الدين بما يتناقض مع دعاوى هؤلاء ومزاعمهم في سابق سنوات الثمانينات والتسعينات عندما كانوا يتهمون الحركات الإسلامية بأنهم لا يفقهون الدين وأنه لا يجوز لهم أن يتكلموا فيه وأن للدين علماءه الذين يجب العودة إليهم. ولا يعني هذا أننا ننحاز لاعتبار العلوم الشرعية حكرًا على فئة دون فئة بل إن مما يميز الإسلام أنه حارب الكهنوت ولم يجعل بين العبد وربه أي واسطة ومن ثم يستطيع أي امرء أن يحصل من العلم ما يشاء لكن ما نرفضه مقولات هؤلاء الذين ظنوا أن الحقيقة ما استندوه فيه لعقولهم وضلالاتهم. لكن في المقابل ثمة أمران في غاية الأهمية يجب أن نلفت نظر الإسلاميين إليهما: الأولى: هو الخطأ المتكرر الذي يقع فيه الكثير من الإسلاميين إذ أن جلوسهم في جلسات السخرية والاستهزاء بدين الله هو من أعمال المخالفة لتعليماته عز وجل إذ يقول "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ". الثانية: تصدر من ليس مؤهلًا للخطاب العام من الإسلاميين فالخطاب السياسي يحتاج لمحترفين واعين وليس لحفظة كتب فحسب كما يحتاج إلى الإلمام بتفاصيل الواقع وفقهه. يضاف إلى هذا أنه بات من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس كل ما يعرف يقال وأن الفطن من يتخير الوقت والمكان والأشخاص المناسبين للقول حتى لا يتحول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تبليغ الرسالة منكر تكون تداعياته سلبية.