لم يسعد المصريون كثيرًا بزيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لمصر وهى الزيارة التي كانت لحضور القمة الإسلامية بالأساس لكنها اكتسبت بعدًا شعبيًا بزيارته للأزهر وأيضًا بالحديث المطول الذي خصته به جريدة الأهرام شبه الرسمية. وعلى غير المتوقع لم تكتسب الزيارة مجالًا كبيرًا حولها فيما كان التوقع لها كونها أول زيارة على هذا المستوى الرسمي لرئيس إيراني بعد الثورتين الإيرانية والمصرية.. لا شك أن عدم الاستقرار فى مصر وموقف إيران من الثورة السورية والحديث حول المد الشيعي أفقدا الزيارة كثيرًا من مضمونها الاستراتيجي كما ينبغي لعلاقة بلدين بحجم مصر وإيران. الشرق الأوسط له ثلاثة أعمدة كبرى تتمتع بثقل استراتيجي كبير.. هى تركيا ومصر وإيران وهى ليست مجرد تكتل سكاني كبير فقط هي بالفعل الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها الشرق الأوسط والعصب الرئيسي للتحكم فى المنطقة كلها.. التاريخ حاضر بقوة.. الثراء بتنوعه المتعدد.. والموقع الاستراتيجي أيضًا. هو بلا شك مثلث القوة في المنطقة.. هذا المثلث مع الأسف الشديد اجتمعت فيه مصالح غربية كبرى هى النفط وإسرائيل. نعلم جميعًا أن إسرائيل تعتمد فى وجودها الأمني على ما يعرف بسياسة (شد الأطراف) وكانت ركائزها بالدرجة الأولى في المنطقة هي تركيا و إيران و أثيوبيا.. إيران خرجت من تلك المعادلة.. وبدرجة ما لم تعد تركيا الأمس هي تركيا اليوم. وإذا كانت العلاقات بين مصر وتركيا أخذه فى التطور والنمو على المستوى الاستراتيجي وما يتبعه من كل أشكال التعاون والدعم. فإن علاقة مصر وإيران مازالت بعيدة عن هذا المستوى من التعاون والفهم الاستراتيجي المشترك للحالة الإقليمية. لا أتصور أن الحالة المذهبية حاضرة على خلفية العلاقة بين البلدين.. فمنذ تحول إيران في بداية القرن السادس عشر إلى المذهب الشيعي على يد الشاه إسماعيل أول ملوك الأسرة الصفوية وإلى الآن لم تكن الخلافات المذهبية عنصرًا حاضرًا في علاقات البلدين.. بل لقد رأينا زواجًا ملكيًا في أواخر الثلاثينيات قاده على باشا ماهر رئيس الديوان الملكي الذي كان يرى أهمية نشر النفوذ المصري فى المنطقة كلها بكل الوسائل المتاحة وأن يكن الزواج إحداها. وبالفعل عقد قران الأميرة فوزية أخت الملك فاروق إلى ولى العهد وقتها(الشاهبور) محمد رضا بهلوى وهو الزواج الذى لم يستمر طويلًا. رأينا أيضًا فرحة المصريين الرسمية والشعبية بثورة مصدق وتأميم البترول عام 1951م وهى الثورة التى أجهضت على يد كيرميت روزفلت ممثل المخابرات الأمريكية فى المنطقة فى عملية أجاكس الشهيرة.. سنسمع اسم كيرميت روزفلت يتردد كثيرًا في القاهرة عقب حركة الضباط الأحرار فى مصر فى نفس التوقيت (1952م) وعلى العكس من دوره المضاد في خلع مصدق كان دوره الأميز فى تثبيت الضباط بقيادة الضابط الشاب الجريء جمال عبد الناصر.. ومن اللافت للنظر أن الأستاذ هيكل كان شاهد (عيان) على الانقلابين (عبر شبكة علاقات واسعة) المضاد فى إيران والثوري فى مصر. بعد الثورة الإسلامية في إيران واستحضار السادات لأمريكا كلاعب رئيسي فى المنطقة يمتلك 99% من أوراق اللعبة. كان طبيعيًا أن تتوتر العلاقة بين مصر وإيران.. خاصة وأن الحال الشعبي للحركة الإسلامية فى مصر قد بلغ مداه وبما لم يتحمله الرئيس السادات وبدأت وكالات الأنباء والتقارير تطلق على الأستاذ عمر التلمسانى المرشد الرابع لجماعة الإخوان المسلمين (آية الله التلمسانى)في إشارة إلى دور متوقع شبيه بدور آية الله الخميني فى إيران. عبر ما يقرب من أربعين عامًا انقطعت العلاقات بين مصر وإيران وعبثًا حاول مفكرون وسياسيون أن يشيروا إلى أن هذه القطيعة ليست فى صالح مصر.. فسياسة الباب المفتوح خاصة مع دولة مفتاح مثل إيران ضرورة لترسيخ مكانة مصر الطبيعية فى الشرق الأوسط وبما يجعلها مسموعة الكلمة مهابة الجانب. لكن الحزام الأمريكي كان أكثر ضغطًا على صانع القرار في مصر الذي كان يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية بشكل محزن.. خاصة وأنه كان لديه نفور طبيعي من قصة الدين والتدين. بعد ثورة يناير اختلف الأمر نوعًا ما.. وأخذت السياسة الخارجية المصرية تنحو نحو الاستقلال والتوازن.. من جانبها.. إيران تعاني من عقوبات اقتصادية شديدة وعزلة دبلوماسية من الغرب بسبب ملفها النووي الذي يؤدي إلى التهديد العسكري لكل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وفي الوقت نفسه يعاني حليفها الهام في الشرق الأوسط (سوريا) من أزمة عميقة في البلاد.. إيران أحد مفاتيح حلها.. وبالنسبة لمصر يعد تحسين علاقاتها مع إيران - قبل كل شيء - تجسيدًا لاستراتيجيتها الدبلوماسية المتوازنة في الجمهورية الثانية. ناهيك عن الحاجة إلى التعاون الاقتصادي.. الاقتصاد المصري في حاجة ماسة إلى الأموال. وفي الوقت نفسه تأمل إيران التي تعاني من العقوبات الغربية في الحصول على المنافع الواقعية من خلال تعاونها مع مصر.. على الجانب الآخر نجد أن هناك وجهًا نافعًا فى المضار الكثيرة لخصوصية علاقة مصر مع أمريكا ووجود علاقة دبلوماسية مع إسرائيل فى الوقت الذي تتجه فيه العلاقات بين مصر وإيران نحو الأفضل مما سيترك آثارًا هامة على الحالة في الشرق الأوسط.. سواء فيما يتعلق بالعلاقات الخليجية الإيرانية أو على مستوى أزمة النشاط النووي لإيران وأيضًا القضية الفلسطينية.. ناهيك عن الملف العراقي الذي تستحوذ عليه إيران بما يحويه من البعد المذهبي والإقليمي.. وهو ما سيجعل لمصر حضورًا إقليميًا فاعلًا طال غيابه.. هذا الحضور ليس مجرد وجاهة سياسية بل هو فى الصميم الاستراتيجي على كل مستويات المصالح. ميزان الثبات والتحول في العلاقات المصرية الإيرانية يميل أكثر نحو الثبات.. هذا هو حديث التاريخ وحديث الجغرافيا.. وأيضًا حديث المصالح المادية والحضارية. أما عن التخوف من المد الشيعي فأرد عليه ببيت المتنبي: من كان فى محل الشمس موضعه ** فليس يرفعه شيء ولا يضع.