حين زعم الكفار أن الله اتخذ ولداً ناقشهم القرآن بمنطق عقلى بسيط: "أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة"، وحين قال اليهود "يد الله مغلولة"، لم يتخل القرآن عن منهج الإقناع بالحجة فى الرد عليهم وهم فى أقصى حالة من الافتراء وإساءة الأدب: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء".. وفى سورة يونس لم يسكت القرآن القائلين باتخاذ الله ولداً ولم يقمع رأيهم على فساده العظيم، بل فتح لهم باباً للحوار الفكرى "إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا".. لم يقل اسكتوا بل قال لهم هاتوا ما عندكم من أدلة.. معيار التحاكم هو البرهان وسلطان العلم، ومشكلة هؤلاء الرئيسية ليست فى تعبيرهم عن رأيهم، بل فى التخلى عن أصول المنهج العلمي: "أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".. وكذلك حين طرح المشركون شبهةً فكريةً وهى أنهم يشركون بمشيئة الله: "لو شاء الله ما أشركنا"، عالج القرآن أساس الخلل الذى ولد هذه الشبهة والمتمثل فى غياب المنهج العلمى: "هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون".. المنهج العلمى يقتضى ألا تطرح دعوى إلا ببرهان ودليل علمى يقيني، ومنطق المشركين هنا ليس علمياً لأنهم يفترضون أن الله شاء لهم الشرك، وهذه الدعوى تقتضى أنهم اطلعوا الغيب فعلموا أن الله قد حكم عليهم بالشرك أبداً، فيما الحقيقة أنهم يمتلكون اختياراً حراً فلو أرادوا الإيمان لن يمنعهم من ذلك شيء، وما داموا لم يطلعوا الغيب، فإن افتراضهم يظل فى دائرة الظن والحرص المناقض ليقين المنهج العلمي. فى آية أخرى: "ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه".. ما قيمة إضافة "لا برهان له به" مع أن حقيقة وحدانية الله أسطع وآكد من أن تحتمل قولاً آخر ومع أن زعم المشركين بوجود إله آخر لا يحمل أى وجاهة علمية؟؟.. يريد القرآن هنا أن يؤكد على أهمية التحاكم إلى المنهج العلمي؛ ذلك المنهج القائم على البرهان، فأساس مشكلة الشرك هو التخلى عن المنهج العلمى واتخاذ آلهة أخرى بالظن، فمن التزم بالبحث عن البرهان فى أى دعوى فقد اعتصم ولا يمكن أن يضل، وسيهتدى للحق يقيناً.. إذا كان القرآن يقبل المحاورة فى أكبر القضايا الوجودية وهى قضية وحدانية الله وعدم اتخاذه ولداً، ويفتح لمنكرى هذه الحقيقة باب المناقشة الفكرية فيطالبهم بالدليل، فكيف تسلل إلى ثقافتنا تحريم النقاش الفكرى أو تحديد مجالاته وخلق دوائر محرمة يحظر الاقتراب منها، والظن بأن النقاش العقلى قد يضل بالإنسان!! إذا كان القرآن يقدس البرهان وسلطان العلم إلى درجة أنه يقبل بمحاكمة قضية وحدانية الله ذاتها إليه، فكيف نكبنا فى عقولنا فصرنا نواجه السؤال والدعوى بالزجر والإسكات وصرنا نخشى على أنفسنا من فضاءات النقاش الفكرى الحر، فنسد النوافذ والأبواب وننغلق على أنفسنا مخافة التأثر بالأفكار الوافدة وأن يقودنا الفكر إلى الكفر.. الخشية من أن تؤدى أجواء الانفتاح الفكرى إلى انحراف شبابنا وتأثرهم ب"أفكار كفرية" معاكس تماماً لمنهج القرآن الذى نجد فيه أن الانغلاق الفكرى هو من أفعال الكفار وليس المؤمنين: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"، "مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين"، والكفار فى القرآن هم الذين جعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم.. الكفار يخافون أجواء الانفتاح الفكرى فيسدون على أنفسهم الأبواب والمنافذ مخافة التأثر بدعوة أنبيائهم، وبدل أن يناقشوا الدعوة بالحجة والبرهان ينظرون إليها بأنها سحر قد يؤثر فيهم بطريقة خارقة وأن السبيل للتصدى له هو عدم منحه فرصةً للتعبير عن نفسه. وهذا هو حال المنغلقين فكرياً الذين لا يثقون بقدرتهم على المحاججة الفكرية ويظنون أن الانفتاح الفكرى قد يحرف أبناءنا ويؤثر فيهم بطريقة سحرية وأنه لا سبيل لمواجهة هذه الأفكار سوى بالانغلاق على أنفسنا واستغشاء ثيابنا!! الحوار الفكرى لا يمكن أن يقود إلى الكفر بحال من الأحوال، فالكفر ليس سوى توقف حركة الفكر: "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير".. الكفر هو عناد واستكبار أى أنه مرض قلبى ولا دخل للفكر به، أما ميدان النقاش الفكرى فهو مفتوح ليس له أى حدود فليطرح أى أحد أى دعوى، وما دمنا قد احتكمنا لمعيار البرهان وسلطان العلم فليس ثمة من خشية، فما كان حقاً فسيثبت بالبرهان وما كان باطلاً ووهماً فستذروه الرياح مهما أحكمنا سد النوافذ والأبواب ومهما كان هذا الوهم راسخاً فى ثقافتنا وتراثنا.. والله أعلم.. [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]