"هم صيع، وبلطجية، وحاجة مش كويسة، إحنا بنقول فين أيام مبارك". هذا كلام مواطن مصرى بسيط لفضائية "سكاى نيوز" يلخص فيها بالفعل شعور الأغلبية الصامتة تجاه المظاهرات التى صارت مرتبطة بالتخريب والتدمير والقتل خلال الفترة الأخيرة، أما عن أمنيته ب "عودة أيام مبارك" فغالبًا قصده هو عودة الأمن حتى لو فى ظل حكم ديكتاتوري، وهذا المواطن مثل الأغلبية الصامتة لا يعنيهم كثيرًا أو قليلاً مسألة الديكتاتورية، بل هم لا يعرفون معنى الكلمة أصلاً، ولاهم مشغولون بها، إنما الذى يعنيهم أولاً هو الأمن، ولقمة العيش. وفى مصر الثورة، صار الأمن يسبق لقمة العيش لأن الإنسان يمكن أن يتحمل قسوة الفقر أو الجوع لساعات طويلة، بل لأيام، لكنه قد لا يتحمل قسوة غياب الأمن ساعة واحدة، فالخوف هو العدو الحقيقى الذى يقهر الإنسان، إذا اختفت سلعة يمكن الاستغناء عنها، لكن ليس مسموحًا غياب سلعة الأمن. فوضى بورسعيد، والسويس، والشوارع المحيطة بالتحرير كانت بروفة لما يمكن أن تكون عليه محافظات مصر كلها لو سقطت الدولة وسادت الفوضى، حيث ستسقط مصر فى أيدى فرق البلطجة، والمجرمين، وأصحاب السوابق، وفرق أخرى تلتحف برداء الثورية وتميل للعنف لتحقيق أهدافها السياسية مثل "بلاك بلوك"، ومثل المجموعة التى استولت على المجلس المحلى فى الفيوم وتسمى نفسها "مجلس ثوار الفيوم"، كما ستظهر فرق وجماعات أخرى سياسية ودينية وطائفية وعرقية تحت مسميات عديدة مدفوعة بتوجيهات وتمويلات داخلية وخارجية لنجد أنفسنا أمام عشرات أو مئات الميليشيات التى تفرض وجودها بالسلاح على محافظات وأحياء وقرى وشوارع كاملة، ليجد كل واحد منا نفسه خاضعًا لاحتلال حقيقى من ميليشيا أو أكثر على غرار لبنان خلال الحرب الأهلية، وعلى غرارها اليوم أيضًا، حيث تنتشر المربعات الأمنية التى تسيطر عليها جماعات وأحزاب سياسية وطائفية ومذهبية فى ظل غياب تام للدولة اللبنانية، وتخيلوا عندما تنتهى تلك الميليشيات من إحكام سيطرتها على المناطق التى تحت نفوذها ثم تتجه لتوسع النفوذ إلى مناطق أخرى مجاورة حيث ستتقاتل مع بعضها البعض ليكون المواطنون هم الضحايا بعد أن يتم سلب ممتلكاتهم وإجبارهم على دفع الإتاوات لحمايتهم فى استدعاء لزمن الفتوات قديمًا. هذا المشهد مخيف، ولم تعشه مصر فى أحلك أيامها، ولا نريد أن نتخيله، أو نفكر فيه، حيث لا يمكن احتماله لأن مصر بعده لن تقوم لها قيامة لا قدر الله. لذلك استقرت النظم السياسية كلها على اختلاف توجهاتها على أن تحتكر الدولة العنف المنظم ليكون تحت السيطرة والرقابة والمحاسبة إذا ما حصلت تجاوزات ولمنع ظهور الميليشيات التى تهدد وجود الدولة ودورها، ومن هنا، على الدولة المصرية أن تحارب أى ميليشيا تظهر مهما كانت أهدافها حتى لو كانت ملائكية، ومن يدافعون عن "بلاك بوك" مثلاً يرتكبون حماقة كبرى لأن الأمن يجب أن يبقى محصورًا فى أيدى الدولة فقط، وحتى لا تظهر ميليشيات تزعم أن لها أهدافًا إنسانية لنجد أنفسنا أسرى فوضى تلك الميليشيات المجهولة الهوية والأهداف والتمويل. لدينا مثلاً واقعة المواطن المسحول، فالانتقادات والمطالبات بالتحقيق تم توجيهها للنظام وجهاز الشرطة لأنهما يمثلان الدولة التى تحتكر العنف، وبالتالى أمامنا جهة مسؤولة يمكن محاسبتها، لكن انظروا إلى الجزء الغائب فى واقعة السحل التى حكاها المواطن نفسه وهو قوله إن متظاهرين أمام قصر الاتحادية هم من قاموا بتعريته وضربه، إذن كيف يمكن معرفة هؤلاء، والوصول إليهم لمحاسبتهم، لأنهم كأفراد أو ميليشيات يصعب تحديد ملامحهم بسهولة، أما الشرطة فلأنها إحدى أدوات الدولة فى ممارسة العنف المنظم كان من السهل التصويب عليها والمطالبة بمحاسبتها. مهما تكن التضحيات فلا مناص عن وجود دولة ونظام حتى لو كانا ضعيفين فى هذه المرحلة، ولذلك لا يجب أن يسمح أبدًا وبأى ثمن بوجود ميليشيات، فالأمن فى مصر صار أمنية غالية، والحنين إلى أيام الديكتاتور سيكون فشلاً ذريعًا للسلطة وللمعارضة على السواء. [email protected]