يرتبط السياق العام لحركة المجتمع المصرى بعد ثورة يناير 2011 بالثقافة بصورة ما. لقد تحررت مصر وتحرر الإسلام وتحرر الشعب من عصابة إرهابية فاسدة، ظلت ستين عامًا تكتم أنفاس الناس، وتصادر حريتهم وعقيدتهم وإبداعهم وفنونهم، ولا تسمح إلا بما يزيف الوعى ويسطحه ويحول المواطنين، وخاصة من الأجيال الجديدة إلى كائنات بيولوجية لا تعرف إلا ما يملأ بطونها ويشبع غرائزها، ولذا فقد أعلت من القيم المادية والقوة والعنف واستباحت الكرامة مع الترويج للفهلوة، والغاية تبرر الوسيلة والبحث عن المنفعة الشخصية قبل المصلحة الوطنية، وازدهرت الكتابة التى تدعى أن الكاتب لا يملك إلا جسده، وأن القضايا الكبرى لم يعد لها وجود أو كينونة، وفشت كتابات هابطة من هذا النوع تنفق عليها الدولة من عرق الفقراء والبائسين. ثورة يناير تجاوزت هذا المنهج بدليل خروج الجماهير بطريقة مدهشة أثارت إعجاب العالم كله، وكان فى مقدمة هذه الجماهير أجيال من الشباب الغض الذين اهتدوا بفطرتهم إلى ضرورة الحصول على الحرية والكرامة والعدل، ورفض الاستبداد والمهانة والظلم، وهو ما وجد صداه فى أعمال كتّاب مهمشين، لا ينتمون إلى الحظيرة الثقافية، ولا ينتسبون إلى العصابات التى سرقت ثقافة الأمة وهمشتها وقايضت بها فى سوق اللصوصية الحضارية، لدرجة الاحتفال بالمحتل الفرنسى المجرم، وعدّ ذلك الاحتفال علاقات ثقافية. مع أن رأس النظام فى المستشفى ينام فى العسل ويحظى بالخدمة من الدرجة الممتازة، والزيارات التى لا تتوقف، فما زال أبناؤه يحكمون الوطن، ويسيطرون على مفاصله، ويشيعون فى أرجائه الفساد واليأس والإحباط، ويحاولون العودة إلى الفردوس المفقود لإبقاء عارهم الذى كان، وتبدو قوى الثورة أسيرة ومحاصرة ومطاردة أمام محاولات إسقاط الدولة ومؤسساتها وعرقلة إقامة ديمقراطية تناسب مصر العريقة. لقد نجحوا فى إسقاط مجلس الشعب، ويحاولون إسقاط مجلس الشورى والرئاسة والدستور، وكل ذلك لمصلحة مؤسسة اللصوص الذين سرقوا ونهبوا بالقانون، وسيطروا على مؤسسات الفكر والتوجيه والرأى، وصار من الصعب على الرئيس المنتخب أن يقطع خطوات ولو بسيطة فى طريق الأمل، فكلما خطا خطوة للأمام أعادوه بالأكاذيب والتهويش والتضليل والذرائع الواهية إلى نقطة الصفر.. بما يعنى فى مفهومهم: إما نحن أو الدمار! ما زالت المؤسسة الثقافية فى قبضة أبناء المخلوع، ومختطفة من قبل اللصوص الذين سرقوها قبل ربع قرن من الزمان، الأشخاص أنفسهم، والأفكار ذاتها، والنشاطات عينها، والنتائج الكارثية هى هى لم تتغير. لم تعلم المؤسسة الثقافية أن هناك ثورة، وأن هناك مثقفين مختلفين، وأفكارا مغايرة، ونشاطات متعددة، ونتائج إيجابية تنتج عن الحوار والتفاعل والتنوع. القيادات الثقافية ما زالت تأتى من داخل الحظيرة، وحين بدا أن هناك وزيرا سيأتى من خارجها قامت القيامة ولم تقعد إلا بعد عودة الوزير الذى استقال قبل استقالة وزارة الجنزورى بأيام ليحصل على مائتى ألف جنيه وقلادة ذهبية قيمة ما يسمى جائزة الدولة التقديرية! كثرت البيانات والتصريحات من الحظيرة الثقافية عن حرية الفكر والتعبير والإبداع، والخوف من الأسلمة والأخونة وكأن مصر دولة بوذية أو هندوسية أو مجوسية، وتابع القوم سياسة التهميش والإقصاء والاستئصال التى ظلت طوال ربع قرن حتى اليوم ضد من هم خارج الحظيرة، لدرجة أن الكاتب الذى أهان الإسلام والمسلمين وجماعة الإخوان، وجعل منشئها عميلاً للإنجليز حصل فى ظل الأغلبية الإخوانية على ما يقرب من نصف مليون جنيه وقلادة ذهبية، فيما يسمى جائزة مبارك أو جائزة النيل أكبر جوائز الدولة المصرية، وخرج بعدها ليقول إنه غير متفائل، وشبه الإخوان بالقرود، ولم يعترضه أحد بسوء، ولكن الضجة حول حرية التعبير ما زالت قائمة، والتهميش والإقصاء والاستئصال لغير الحظائريين ما زال قائمًا أيضًا. هناك كتب فى مجال التخصصات النوعية تصدر من حين لآخر، ولا يهتم بها أحد وفقاً لمنهج التهميش والإقصاء والاستئصال، وهناك نصوص إنشائية فى الرواية والقصة والشعر والمسرح تأتى فى سياق معتاد، وأغلبها الأعم غير ساطع، وغير متفرد.. بيد أن هناك بعض الكتب التى رصدت حركة ثورة يناير وأرخت لها، وهى كتب مهمة بالنسبة للأجيال القادمة وإن كان بعضها يأخذ منحى حزبيًا أو أيديولوجيًا فيحجب بعض الحقائق أو يفسرها تفسيرا غير موضوعى يلوى عنقها لإثبات رؤية منحازة وغير دقيقة. وهناك بعض الكتب التى رصدت المتحولين أو المنافقين الذين كانوا يخدمون النظام الأمنى السابق، وتحولوا إلى الثورة، وبالغوا فى ثوريتهم المدّعاة لدرجة أنهم يتجرأون الآن على مقام الرئاسة المنتخبة بصورة مقززة ومخالفة للأخلاق والأعراف، مع أن بعضهم عمل فى تلميع بيادة النظام البوليسى الفاشى، وكان يصف المخلوع بأنه أفضل رئيس عرفته مصر، أو يصفه بأنه النسر الأعظم إشارة إلى مهنته فى الطيران قبل وصوله إلى الرئاسة، وكل ذلك نظير العطايا والهدايا التى جعلت لبعضهم قصورًا وحدائق بعد أن كانوا يهيمون على وجوهم فى أحياء القاهرة بلا مأوى. جوائز الدولة لم تتجاوز الحظيرة كالعادة، ولم تتغير لعبتها المعروفة، وبرع أنصارها فى الحرص على عدم خروجها من بين ظهرانيهم، لدرجة أنهم استثمروا نصوص القانون ليمنحوها لموتاهم! من العلامات الطيبة إخراج مسرحية كفر الأخضر التى تدعو إلى تعمير سيناء، وعرضت فى العاصمة والمحافظات وحققت نجاحًا ملحوظاً، وللأسف وقف منها بعض المنسوبين إلى الحظيرة موقفاً غير طيب، حيث منعوا عرضها فى قصر الثقافة بإحدى المدن. ومن العلامات التى نرجو أن تكون طيبة تخصيص ملحق للثقافة بالأهرام، ونأمل أن يكون مفتوحًا للمهمشين الذين تم إقصاؤهم واستئصالهم، كما خرجت أخبار الأدب من الدائرة الحديدية الضيقة التى تحركت فيها منذ إنشائها، ونأمل ألا تكون حكرًا على دائرة أخرى حديدية ضيقة، بل تتسع للجميع، وأن يكون شعارها بل شعار الحياة الثقافية: الجودة قبل الشهرة، فرب نكرة يكتب جيدًا خير من مشهور لا يكتب إلا زورًا وبهتاناً وخدمة للاستبداد. وكل عام وأنتم بخير.