من مأثور القول : أن الله عز وجل قد ربَّى نبيه محمدًا ليربي به العرب ، وربَّى العرب به ليربي بهم الناس أجمعين ، ولهذا كانت سيرته مرجعًا لكل باحث عن الكمال ، ومنهلاً لكل راغب في التأسي الذي أرشد الله عز وجل إليه في قوله : ژ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ژ . وقد شهد كثير من غير المسلمين الذين درسوا التاريخ العربي في عهد النبوة بأن العرب قد تحقق لهم خلال هذه الفترة إنجاز هائل ، تمثل في تحولهم من الضعف إلى القوة ، ومن الذلة إلى العزة ، ومن التأخر إلى التقدم ، والمنصفون يَرُدُّون ذلك إلى القرآن الذي تمَثَّلَهُ سيدنا محمد في كل مراحل جهاده لاستنقاذهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى . وهذا يعني أن دراسة السيرة النبوية يجب ألا تتم بعيدًا عن القرآن الكريم الذي حدد معالمها ، ورَشَّدَ مراحلها ، وسَدَّدَ خطواتها ، ورَبَطَ بين أحداثها ، وبين مقدماتها ونتائجها ، وسجل وأعطى التفسير الصحيح لكثير من تفاصيلها وفق منهج معرفي تربوي يمكن استثماره في تقديم خطة متكاملة للنهوض بحياة الفرد والأمة . والمنهجية القرآنية في عرض أحداث السيرة النبوية تقوم على الصدق وعلى المعاصرة للأحداث والإحاطة بملابساتها ، مع عرض عواطف الذين عاشوها ؛ بحيث تظهر وكأنها رأي العين ، مع التركيز على الثوابت والسنن التي لا يمكن تجاوزها ، والتدخل المباشر أو غير المباشر لتغيير مجرى الأحداث ، أو تثبيتها ، أو التأثير فيها وفقًا للرؤية القرآنية ، وفي إطار التسلسل التاريخي للأحداث الذي لا يتم تجاوزه إلا للاعتبار الموضوعي الذي يضمن عرض الرؤية القرآنية في صورة متكاملة تضمن لها التأثير الفعلي ببيان التلاحم التام بين التنزيل الرباني والتاريخ النبوي ، وبحيث لا يتم تهميش بعض الحقائق أو طمس بعض القيم والدلالات بفعل الوقوع في أَسْرِ هذا التسلسل الذي يقتضي حشد الوقائع والتفاصيل الجزئية التي لا يربطها – في الأغلب - رباط موضوعي واحد ، على النحو الذي نجده في معظم كتب السيرة وموسوعات التاريخ . وهذا يعني أن السيرة بأحداثها التي لا يعكرها التهويل الأسطوري أو الدخل الإسرائيلي ، وبمعطياتها المتنوعة التي تخلو من الغلو الروحاني ، وبدلالاتها الزاخرة التي لا تطمس بعضها النظرة المادية ، وبواقعيتها التي تراعي الأسباب وتنأى عن الخيال.. هذه السيرة بتلك السمات تمثل القرآن الكريم عمليًا ، وتُظهر أثر آياته في تصرفات الرسول وفي مواقفه ، وتؤكد أن زمنه يمكن تَكراره ؛ لأنه كان زمنًا بشريًا سار في صوابه بالقرآن ، وصحح أخطاءه بتوجيهاته ، وتَضَمَّنَ كل المعايير التي يمكن أن يقاس عليها كل ما يعيشه الفرد أو تمر به الأمة من مواقف وأحداث . إننا نحتاج إلى الكشف عن البعد الحضاري للعصر النبوي الذي هيأ الشروط لقيام حضارة شامخة ، ودراسة السيرة في ضوء الرؤية القرآنية هي الأساس الذي نعول عليه في ذلك ، لأنها تدل على أن الرسول قد تحرك وفق ثلاث دوائر ؛ بدأت بالإنسان ، ومرت بالدولة ، وانتهت إلى الحضارة التي حظيت مساحات واسعة من العالم القديم بنورها ، والتي يثق كل مسلم يؤمن بمستقبل هذا الدين بأن العالم كله سيحظى بخيراتها في المستقبل ، لأنها حضارة التوحيد البَنَّاء في مواجهة الشرك الهدَّام ، وحضارة الأمة والدولة والتشريع الرباني في مواجهة مجتمع الفرد أو القبيلة أو القانون الوضعي ، وحضارة الإصلاح والبناء والإعمار في مواجهة التخريب والهدم والإفساد ، وحضارة المنهج والمعرفة في مواجهة الفوضى والجهل . وليس على المؤمنين بالمشروع الحضاري الإسلامي والداعمين له إلا أن يحسنوا عرض أسس هذه الحضارة والكشف عن جوانبها ، بعد أن يصح فهمهم لها من خلال الرجوع إلى الأساس الذي قامت عليه ، وهو القرآن الكريم ، ودراسة الزمن الذي تم استنبات بذورها فيها ، وهو زمن النبي ، وأن يمتلكوا الرؤية ويعدوا الخطط التي لا تخلو من إجراءات عاجلة تضع الفرد والدولة على بداية الطريق إلى هذه الحضارة ، على أن يمضوا في سبيلهم أثناء ذلك وبعده ، لا يعتريهم يأس ، ولا يسيطر عليهم ضعف .. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. *أستاذ التفسير وعلوم القرآن الكريم وكيل كلية القرآن الكريم بجامعة الأزهر [email protected] أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]