كان المأمول أن يأتي قرار الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور والخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية بمثابة قطيعة تاريخية حقيقية مع الموروث السلطوي الطويل الذي جمد دفق الحياة الساسية في مصر لأكثر من نصف قرن، وعلى نحو يمكنها من استئناف حضورها التاريخي كنموذج قابل للتطور، وكمصدر حي لإلهام المحيط العربي. غير أن كل ما جرى بعد صدور القرار قد وأد هذا الأمل، بدءا من المماحكات التشريعية لمؤسسات النظام والحزب الحاكم، وحتى محاولتها النيل من النزعة التحررية للنشطاء السياسيين يوم الاستفتاء، سواء من خلال الانتهاكات الأمنية التقليدية، أو عبر استخدام مدنيين لا يرتدون ثياب الشرطة في إرهاب الناشطات، والناشطين في «حركة كفاية» بالأساس. وخاصة الصحافيين منهم فيما يبدو وكأنه رسالة اليهم، وإلى غيرهم من قوى المعارضة، بالكف عن حالة الفوران السياسي التي يعيشونها منذ صدور قرار التعديل وإلا طالتهم قبضة الدولة الظاهرة أو المتخفية، ما أعاد تسميم الجو السياسي، وأعاق بناء التوافق الوطني وحرم مصر من قطيعة تاريخية مع ميراثها السلطوي الطويل، وأجل ربيع الديمقراطية بها. وبرغم ذلك فإن مصر تعيش حالة فوران سياسى مستمرة، وربما غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، سواء على صعيد التنظيمات السياسية التي تتوالد أسبوعيا تقريبا، أو التفاعلات التي تتصاعد وتتحول وأحيانا تقلب فيما بينها جميعا، ففي الأسبوع الأخير وحده أطلقت جماعة الإخوان المسلمين دعوتها الى تشكيل جبهة وطنية موسعة للضغط على النظام حتى يستجيب لمطالب الإصلاح. وفي المقابل كانت هناك جماعة وطنية ديمقراطية أخرى تتشكل في شكل ائتلاف من المثقفين والكتّاب، ورجال السياسة السابقين والذين تغلب عليهم الخلفية الدبلوماسية، وبعض أساتذة الجامعات المصرية ممن لهم حضور خارج قاعات المحاضرات، وأسوار الأكاديمية العازلة، فضلا عن بعض الشخصيات العامة المشهود لها بالاحترام. هذه الجماعة في تركيبها، وفي نهجها الظاهر حتى الآن تبدو كصيغة وسطى بين «حركة كفاية» من جهة، والتي أعلنت رفضها المبدئى لاستمرار الرئيس مبارك، سواء عن طريق التمديد، أو حتى الانتخاب، وهو موقف يبدو متعاليا نوعا ما، وربما كان غير سياسي لأنه يستهدف شخص الرئيس بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم ومن ثم فهو غير واقعى ويفتقد للحنكة السياسية. وبين «حركة الاستمرار» من جهة أخرى والتي تشكلت على هامش الاستفتاء الأخير من رحم الحزب الحاكم، وهي بملابسات نشأتها وأهدافها قد ولدت ميتة، فهي غير بريئة من الانتهاكات الأمنية ليوم الاستفتاء والتي أساءت إلى صورة مصر في الخارج، بل وإلى صورتها أمام نفسها، كما أنها مثل كثير سبقها من هيئات ومنظمات الحزب الواحد كهيئة التحرير. والاتحاد الاشتراكي وغيرها مما عرفته مصر في نصف القرن الماضي غير قابلة للحياة لأنها تقتات على الاستبداد، وتتنفس الشمولية، ويضيق بها الخيال الى ما أسفل القدم اذ تتحرك بالأوامر المباشرة، وحسب المصالح السافرة، وعبر النهج البيروقراطي ثقيل الظل والخطي. وإذا ما وضعنا جانبا دعوة الإخوان المسلمين وما تثيره للنظام من حساسية مفهومة، فإن للجماعة الوطنية الديمقراطية الوليدة، ومثيلاتها التي قد تنشأ في الإطار الوطني العريض نفسه أهمية كبيرة في العمل كجسر للحوار العام بين النظام والمجتمع السياسي، وملء الفراغ السياسي الواسع والمتزايد بينهما والناجم عن ثلاثة أسباب متباينة: أولها: يتمثل في بطء إيقاع النظام الحاكم وعجزه عن ملاحقة التغيير الذي دشنه هو نفسه، فمن يراقب سلوك النظام ومؤسساته يمكنه أن يلاحظ كيف أنه مندهش مما يجري، وكيف أنه قلق من حالة الفوران السائدة، وكيف يحاول إعاقة التغيير نفسه حتى لا تكتمل له مجموعة العناصر التي تجعل منه بديلا حقيقيا قادرا على إنجاز التحول الديمقراطي والنهوض بمصر من أسر التلفيق بين الإنفتاح والتحرر الاقتصاديين، وبين الانغلاق والجمود السياسيين. وثانيها: يتمثل في استسهال المعارضة الحزبية المنظمة، وخاصة الأحزاب التقليدية الثلاثة الكبرى، للمقاطعة وكسلها العاجز عن استثمار «ربع» الفرصة والناجم عن قصور فهمها لفكرة السياسة، وتعطلها التاريخي الطويل عن ممارسة دورها بفعل الروح الاقصائية للنخبة الحاكمة نفسها طيلة نصف القرن الماضي. ما جعلها، حتى الآن، عبئا على اللحظة التاريخية التي تعيشها الديمقراطية في مصر، وحتى تنتقل الى موقع الحافز عليها أن تضرب المثل بإجراء انتخابات داخلية مفعمة بالشفافية، وتجديد نخبتها المتكلسة غالبا والمتصارعة أحيانا وطرح قيادات جماهيرية قادرة على كسب تعاطف الجمهور، وكذلك تقديم برامج انتخابية واقعية وطموحة معا بحيث تحوز ثقة المواطنين وتفجر طموحاتهم الى مستقبل أفضل. أما ثالثها: فهو سرعة ايقاع الشارع السياسي المصري الذي يبدو الآن وكأنه يستعيد وعيه بالسياسة كاملا، فكرة وحضورا وممارسة، ما قد يدفعه بإيقاعه السريع إلى الغليان ومحاولة فرض مطالب فوضوية لن تكون في مصلحة أحد لأن الفوضى لا يمكن أن تكون خلاقة أو بناءة إلا على النحو الذى نشهده في العراق السليب والذي لا يصلح أن يكون نموذجا ملهما لمصر. وربما ساعد مثل هذه الجماعات الوطنية على لعب دور الجسر الديمقراطي، الذي يمكن من خلاله نقل المطالب الإصلاحية من الشارع، الى النظام، وتقديم دعوى الاستقرار والهدوء من النظام الى الشارع حقيقة ان النظام قد يجد سهولة في الإصغاء إلى مطالب وطنية عامة تحملها هذه الجماعات الوطنية الديمقراطية، على عكس الصعوبة التي يشعر بها عند التعامل في إطار تنافسي مع مطالب المعارضة الحزبية. ---- صحيفة البيان الاماراتية في 12 -6 -2005