تيار وجد في النمط الحضاري الغربي نموذجا جيدا يمكن تعميمه كله أو بعضه في المجتمع المصري. وآخر وجد في التجربة الحضارية الإسلامية نموذجا أولى بالاقتداء. وبمرور الوقت ازدادت حدة التشعيبات داخل كل تيار فصار الإسلاميون تيار واسع تتباين وتتنوع فصائله. وفي المقابل تراوحت أيضا مواقف فصيل الحداثة أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازا (النخب) ما بين الاعتدال في تقليد النموذج الغربي وما بين التطرف في النقل والتقليد والذي وصل بأحدهم وهو سلامة موسى أن يقول في كتابه " اليوم والغد " ما نصه : " كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني ، وكلما زادت معرفتي بأوربا زاد حبي لها وتعلقي بها ، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها ، هذا هو مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي سرا وجهرا ، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب " وما يهمنا هو أنه ونتيجة لاختلاف مضمون الرسالة الحضارية لكل فريق سواء الإسلاميين أو النخب فقد تحدد تبعا لهذا المضمون طبيعة الجمهور المستهدف ومجال الانتشار لكل منهما.. فالحضارة الغربية كانت ترتبط في العقلية الشعبية المصرية بالاستعمار وبالعداء للدين، لذلك لم يرتضيها الشعب مشروعا لنهضته. لذلك إنحصر أغلب جمهورها بين عناصر الصفوة المصرية سواء الثقافية أو الأرستقراطية. وقد تشعبت هذه النخب المقلدة إلى نفس التقسيمات الغربية: فأصبح منهم الشيوعيون ومنهم الليبراليون وبتقادم الأولى وسقوطها غلب على النخب المصرية التوجه الليبرالي. وفي المقابل فقد وجد المشروع الإسلامي عمقا استراتيجيا بين قطاع عريض من المصريين الأقل حظا من الاحتكاك بثقافة الغرب والأكثر تمسكا بالهوية القومية والإسلامية. حيث كان من السهل عليهم استيعابه نظرا لارتباطها بالدين والعادات والتقاليد التي يعيشونها بالفعل. ونتيجة لانسداد أفق الانتشار الجماهيري أمام تلك النخب فقد يممت نفسها شطر مؤسسة الحكم. فكانت بضحالة جذورها الشعبية لا تمثل قلقا للنظام الحاكم بل تمثل فرصة ذهبية في دعم وترسيخ وجوده وصبغه بصبغة علمية أو ديمقراطية. مثل الاشتراكيين في عهد عبد الناصر أو الليبراليين في عهد مبارك . وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الليبراليين الجدد بتقاربهم مع نظام الحكم ودخولهم فيه فقد منعهم ذلك من أن يتحولوا إلى جبهة. فأغلبهم قد غلب مصالحه الشخصية واعتمد وسيلة الخلاص الفردي بدلا من الخلاص الجماعي. وتراوحت مواقعهم داخل النظام ما بين فريق أدخله تماما في نسيجه وفريق آخر استكمل بهم مظهره الديمقراطي بأن منحهم أحزابا شكلية، وفريق ثالث فتح له الباب على مصراعيه في مجال الإعلام الذي توسع بشكل انفجاري في العقد الأخير فتحولت فئة كبيرة من هؤلاء الليبراليون إلى المبشرين الجدد بالمستقبل الزاهر الذي يصنعه الرئيس وولده القادم. وقد أدت الشراكة مع النظام الحاكم وتغليب المصلحة الفردية على صالح الأمة وانصراف كل ليبرالي للتصرف بمفرده قد باعد تماما بين هؤلاء الليبراليين وبين الجماهير. وفي أحسن الأحوال فلم يشعر بهم الناس كتيار سياسي أو حزبي بقدر ما أدركوهم كأفراد. منهم المقبول ومنهم المرفوض وأغلبهم مجهول. كما أن زواج المصلحة بين فئة كبيرة منهم وبين نظام الحكم القائم جعلهم أكثر حرصا على بقاء النظام الحاكم واستمراره مهما كان في تقاطع مع رغبة جماهير الشعب. وفي المقابل فأن المشروع الإسلامي قد تعرض لأزمة قد تكون أكبر من أزمة النخب. فإذا كان الليبراليون قد قطعوا صلة مشروعهم مع الجماهير بسبب الاستقطاب الفردي وتغليب المصلحة الخاصة على العامة. فأن مأزق الإسلاميين قد كان في مبالغتهم في عملية الاستقطاب والتي جاءت على حساب تطوير مفردات مشروع النهضة الإسلامية الذي يبشرون به. والسبب يكمن في إدراكهم لحقيقة أن مشروعهم هذا لن ينزل إلى مجال التطبيق على أرض الواقع إلا بعد أجل طويل غير منظور نتيجة لسيطرة النظام الحاكم المستبد على مقاليد البلاد. والمشكلة هنا تكمن في أن لغة التجميع ولغة الحشد تحتاج إلى التعميم وإلى البعد عن التفاصيل مع التركيز على مخاطبة المشاعر سواء الوطنية أو الدينية. لذلك فقد غابت التفصيلات لصالح الكليات وحلت (ماذا) محل (كيف). بل ووصل الأمر أحيانا إلى إقصاء كل من يحاول الإلحاح على التفصيلات من داخل التنظيمات أنفسها. وربما نتذكر كمية الانسحابات والانشقاقات التي تمت خلال السنوات القريبة الماضية داخل التنظيمات الإسلامية. ويكاد يكون جميع المنسحبين هم ممن خاضوا في التفاصيل أو طالبوا بالتغيير حتى صارت هناك نكتة شهيرة بين الإسلاميين وهي – أنا أفكر إذا أنا مطرود- . عند ذلك ، انفتحت الصدارة للخطباء وتوارى المفكرين. وأخذ كل من هؤلاء الخطباء يضيف ويزيد في المشروع الإسلامي بغير ضابط ولا ناقد ولا متسائل عن (كيف؟). حتى صار المشروع في حقيقته وعند عرضه على ميزان النقد والبحث الدقيق عبارة عن فقاعة كبيرة أو (مجمع الأحلام) حيث أن (كيف) هي الأداة التي تستبدل الأحلام بالحقائق. فجاء متخما بالآمال العريضة التي وجدت قبولا وتعلقا من الكثيرين سواء الأتباع أو المريدين. وصارت لحظة الانفجار الحقيقية لتلك الفقاعة في رأي الباحثين هي في نزول المشروع لأرض الواقع. وهو عين الانفجار الذي واكب كل التجارب الإسلامية بلا استثناء. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]