بصرف النظر عن ربط أمريكا مطلبها للإصلاح السياسي والديمقراطي بسياستها الخارجية، فإن حركة الاصلاح السياسي في مصر، والتي سبقت الدعوة الأمريكية زمنياً، كان لا بد أن تخط لنفسها مسالك ليست هي التي تشقها أمريكا في أرض المنطقة، لتجري فيها المياه في حيز محكوم لا تخرج عليه. فالفراق محتوم بين الدعوة الأمريكية وبين الحركة الداخلية للإصلاح، لأن لكل منهما فلسفتها وهويتها ومراجعها العاجلة والبعيدة المدى على السواء، وان كان من الممكن القول إن الأهداف الأمريكية لمطلبها للديمقراطية، قد دفعت الحركة الديمقراطية للاصلاح، إلى توسيع أفكارها، بما يجعل رؤيتها للاصلاح تتسع إلى ما هو أبعد من طلب إصلاحات سياسية، إلى ما يمكن ان يشكل مشروعاً وطنياً أوسع وأكثر شمولاً. ودون تجاهل للتأثير الذي أحدثه الموقف الأمريكي المتكرر في إعلان ربطه للإصلاح والديمقراطية بالأمن القومي للولايات المتحدة، واتخاذ اجراءات يعزز بها هذا الموقف من علاقته بدول المنطقة، إلا ان الموقف الأمريكي كان كاشفاً للمسار الذي يمضي فيه مشروعه الاصلاحي، خاصة بالنسبة لجانبين مهمين: أولهما ان الذين وضعوا المشروع، هم أنفسهم فريق المحافظين الجدد الذين لم يكن أقطابهم قد أخفوا في كتاباتهم وأقوالهم، انهم يسعون لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، بصورة تنتهي بوضع “إسرائيل” في مركزية الصورة الجديدة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً. يرتبط بذلك التسوية النهائية للمشكلة الفلسطينية، أو على وجه الدقة “التصفية” النهائية للمشكلة، في إطار العلاقات الجديدة والأوضاع التي يتم ترتيبها ل “إسرائيل”. الجانب الثاني، ما كان قد أعلنه الرئيس بوش في خطابه الشهير أمام “معهد أمريكان انتربرايز” في مارس/آذار ،2003 قبل وقت قصير من حرب العراق، من أن الهدف التالي للحرب أن يكون العراق النموذج الملهم للدول العربية لتكون على شاكلته الأوضاع في بقية انحاء العالم العربي. *** أما الدعوة الداخلية للإصلاح في بلادنا، وان كانت قد تحركت بوازع من بعث القدرة والحيوية في الحياة السياسية، والخروج من الركود السياسي والاقتصادي، وتأكيد مبدأ حق المشاركة للمواطن في صنع القرار، واختيار التوجهات السياسية للدولة، وحل المشكلة الاقتصادية، والارتقاء بالبشر، واستعادة الشعور بالكرامة الوطنية، فإنها قد تحركت في وقت واجه فيه العالم العربي كله هجمة خارجية تسعى لتجريده من شعور الفخار الوطني الذي يمثل مراحل ناصعة في تاريخه، توّجها بالاستقلال والحرية، بينما هذه الهجمة تحمل معها عودة إلى عصور الاحتلال والاخضاع للهيمنة الخارجية. كما واجه العالم العربي أيضاً، مرحلة ثانية من محاولة انجاز مهمة الانكسار النفسي العربي، والتي بدأت أهم مراحلها في حرب ،1967 والتي كشفت كثير من القيادات “الإسرائيلية” بعدها عن أن أهم ما تحقق لها في هذه الحرب هو انكسار النفس العربية، وغرس الاقتناع لديها بأنه لا أمل لها في تحدي “إسرائيل”، أو الوقوف في وجه طموحاتها ومطالبها. *** ولا شك أن الحركة الداخلية للإصلاح السياسي والديمقراطي، كانت تعي من البداية الأثر النفسي لدى الجماهير العربية، الذي تركه عدم وجود فكر سياسي عربي لدى الأنظمة العربية، يتعامل مع التحولات السياسية الجارية في المنطقة ومن حولها، بالإضافة إلى ما بدا كأنه تسليم تام بما قررته “إسرائيل” بشأن أوضاع المنطقة، وما يلوح من مؤشرات في عدد ليس بالقليل من العواصم من موقف يشبه انتظار تصاريف القدر، أي ماذا في يدنا أن نفعله بالنسبة ل “إسرائيل”؟! ولم يعد خافياً حتى على المواطن العادي، اتساع علاقات التعامل والتبادل مع “إسرائيل” من جانب عدد كبير من الدول العربية، بشكل غير رسمي. وذلك كان لا بد أن يصب في المجرى الذي تتدفق فيه أفكار ومبادئ وأهداف حركة التحول الداخلي للديمقراطية، من أجل بناء حاجز يحمي من الانكسار والخضوع العربي العام. هكذا يتسع الهدف القومي، وبهذا يستطيع تجاوز أي انتماءات ايديولوجية، للمنادين بحركة الاصلاح الداعمين لها، وبهذا أيضاً يتجاوز حتى محدودية الأحزاب التي تتسم غالبيتها بالضعف وشحوب الهوية السياسية، وهو ما يوحي بأن شتات المواقف التي اندفع كل منها تعبيراً عن جماعته، سوف يجد نفسه في مرمى جاذبية الهدف القومي الأكبر الذي تخطى مطلب اللحظة، إلى مشروع قومي أكثر شمولاً لا يكتفي بالإصلاح السياسي، لكنه يتضمن أبعاداً أخرى للنهضة، والخلاص من الجمود، وإزالة مسببات الانكسار والعجز والانصياع للغير، وهو ما يمثل الأمل لواقع مختلف لهذه المنطقة. إذا كان المجرى الذي شقته أمريكا ليحتوي التيار المتدفق لحركة الاصلاح لن يخرجه من مجراه ومساره، فإن أي محاولات من أي قوى معارضة للإصلاح الحقيقي والقومي لحصاره، ودفعه إلى السير منضبطاً في حدود مجرى ضيق مخفوق ومحسوب، لن تصلح مع حركة تمضي بكل ديناميكيتها، في ظروف لحظة تاريخية فاصلة في مصر، والمؤكد أن شيئاً ما أساسياً وجوهرياً وتاريخياً قد تغير في مصر. --- صحيفة الخليج الاماراتية في 22 -6 -2005