حضرت تحقيقا بنيابة أمن الدولة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم (قرب نهاية عصر السادات)، وأذكر أن المحقق وجه إليه تهمة الاشتراك مع آخرين في تشكيل تنظيم سري يهدف إلى قلب نظام الحكم، ولم نكن نتوقع ولا كان المحقق يتصور أن يعترف نجم بما هو منسوب إليه، ولكننا فوجئنا به يطلب من المحقق إعادة تكييف التهمة، وقال ما معناه أنه يرفض التهمة لغير الأسباب التي أوردها المحامون، وكنا - نحن الحاضرين معه- أكثر إلحاحا من المحقق في التعرف على التكييف الجديد الذي تفتق عنه جنون نجم، فإذا به لا ينفي التهمة، لأن الحقيقة البادية للعيان أن نظام الحكم مقلوب فعلا، وأن التكييف السليم للتهمة التي يجب أن توجه إليه والى الآخرين من أمثاله أنهم يريدون أن يعدلوا النظام، لا أن يقلبوه! وكلما زادت أمامي مظاهر انقلاب الصورة تذكرت ذلك اليوم البعيد الذي أعجبنا فيه بتكييف نجم لحال النظام المقلوب، ولا أتصور ما الذي يمكن أن يقوله هؤلاء الذين ناضلوا من أجل "عدل نظام الحكم" بعد كل هذه السنين انقلبت فيها الأحوال إلى ما لم يكن يخطر ببال أكثر المتشائمين ! في أسفل الصورة المقلوبة شعب ذاق الأمرين وزيادة، وهو لا يزال يناضل كل يوم من أجل أن يجدد قدرته على الحياة، وفوقه طبقة من المنتفعين واللصوص وأصحاب المصالح لا يفوتون فرصة سانحة من أجل اكتناز المال، وتهريب ما خف حمله وغلى ثمنه، وفوق الجميع محاولات مستميتة من أجل التمديد والتوريث الذي لا نتيجة له غير استمرار الأوضاع المقلوبة إلى ما شاء الله! تلك الأوضاع المقلوبة جعلتني أكتب منذ فترة مطالباً بالعودة إلي خطوط 16 أكتوبر 1981، والتمسك بالحدود التي وصل إليها الفساد عشية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، وطالبت بالحفاظ علي أرقام الفساد التي كانت تقدر بعشرات الملايين من الجنيهات المصرية، وليس بعشرات المليارات كما هو الحال الآن بعد مرور 24 سنة، وكل ما تمنيته ألا يرتفع منسوب الفساد عن "الرُكب" التي كان قد وصلها منذ عدة سنوات حسب اعتراف شهير لرجل كبير، ولكن النظام المقلوب لم يكتف بأن يصل الفساد إلي "الرُكب"، وأبى الفاسدون إلا أن يجعلونا نغرق فيه حتى الآذان! وما يؤسف له أن النظام المقلوب "ضيعنا" في موضوع "الإصلاح"، وجعلونا نسأل: أي إصلاح ٍ نريد، إصلاح من الداخل، أم إصلاح من الخارج، وشربنا المقلب المدبر بحنكة من الذين لا ينوون إصلاحا لا من الداخل ولا من الخارج!. قال أكثرنا: الإصلاح لا يكون إلا من الداخل، وقال بعضنا: الإصلاح هو الهدف جاء من داخل أو من خارج لا يهم، يأسا من أن يأتي من الداخل أي إصلاح، فأمِل البعض في الخارج، وتوقع هؤلاء من "كوندليزا" خيرًا، ولكننا جميعا شربنا المقلب الذي أوقعنا فيه النظام المقلوب وتُهنا في متاهات الإصلاح من أين، ولم يلتفت أحد فينا إلي أن السؤال الحقيقي يجب أن يكون عن الجهة المنوط بها الإصلاح! من يصنع الإصلاح هو السؤال المفترض، وهو السؤال الأولى بالرعاية من كل حادب علي إصلاح الحال الذي لم يعد لسوئه مثال، لولا أن الأوضاع المقلوبة جعلتنا نتوه في غيره من الأسئلة! كنا نقول زمان لا يمكن أن نبني اشتراكية بدون اشتراكيين، وأثبتت الأيام صدق المقولة، فلا الاشتراكية بنيت، ولا الاشتراكيون سلموا من غدر جماعة الحكم وأرباب المصالح، وعدنا لنقول الآن بأننا لا يمكن أن ننتظر إصلاحا علي أيدي الفاسدين وتحت رعايتهم!. مطالبتنا بالإصلاح من رعاة الفساد، هي مطالبة في غير موضعها، تجافي المنطق، وتتناقض مع طبائع الأمور، وتتماهى مع المقلوب من الأوضاع، فالأنباء تترى كل يوم أن الفساد استحكم، وبات منظومة حكم لها السيادة، وأصبح الفساد قانون الحياة علي أرض مصر، ما أن يسقط فاسد حتى يرتفع فاسد مكانه، ورعاة الفساد باقون في مواقعهم كما هم، ينتفخون شرفا أمام شاشات التلفزيون وعلي صفحات الجرائد. رعاة الفساد باقون فوق رؤوس العباد والبلاد، وقادرون علي إنتاج فاسدين جدد ينضمون إلي طابور الفساد الصباحي ينشدون: مصر يا أم الفساد أنت غايتي والمراد!. ومن فساد الأنظمة المقلوبة أنها تحاكم الذين يقعون لأنهم وقعوا، وحفاظا علي استمرار واستقرار مصالح الرعاة الرئيسيين، في الحكم والحزب! ومن فساد أنظمة الفساد أنها أنتجت أنواعا من الإفساد لم تُعرف من قبل، وأصبح الآباء يتوقون إلي توريث أبنائهم وظائفهم ونفوذهم وطرق الفساد التي بها وصلوا إلي هذا النفوذ، حتى أصبح الفساد والتوريث وجهان لعملة واحدة! سلخانة الفساد تعمل ليل نهار طبقا لشريعة آكلي أموال النبي،الذين لا حرج عليهم، ولا هم يتوقفون عن ابتلاع المال الحرام، وآذان حكومة الفساد واحدة من طين السرقة والأخري من عجين اللصوصية!. ثم نتوقع أن يأتي الإصلاح من كل هذا الفساد؟!. أرجوكم: توقفوا عن مطالبة هؤلاء بالإصلاح، ولا تطلبوا غير التمسك بالنسبة الدولية المسموح بها في الفساد، حفاظا منا علي الشرعية الدولية، وتمسكا بقراراتها في هذا الخصوص، وقبل أن نسأل عن أي إصلاح نريد، علينا أن نسأل - أولاً- عن أي فسادٍ لا نريد، حتى لا نجد أنفسنا متهمين بمحاولة قلب نظام الحكم المقلوب!! [email protected]