في الموروث المصري مثل شعبي يقول: «الدهن في العتاقي» ويعني أن الحنكة والخبرة والقوة والإرادة والنضوج تكون دائماً لدى الذين وصلوا مرحلة عمرية متقدمة. وحتى لو افتقد هؤلاء بعض القدرة على الحركة بفعل الزمن، فإن لديهم الخبرات التي تعينهم لتعويض النقص باستخدام مخزونهم من الخبرة والفطنة والمهارة في تقويم الأمور وتحديد الأهداف، ووضع الخطط للوصول اليها، وعلى رغم أن المثل يطلق عادة لمجرد إرضاء كبار السن وتطييب خاطرهم، إلا أنه تحول حقيقة ثابتة وترسخ بقوة على المسرح السياسي. هكذا ظل المصريون يطبّقون على أنفسهم مثلهم الشعبي، غير مكترثين كثيراً بتحذيرات البعض من أن الدهون تسد شرايين المعرفة وتضغط على مراكز التفكير في العقل، وتغلف مفاصل الحركة فتعرقلها وتبطئ منها وتحد من فاعليتها. من الموروث الشعبي إلى المشهد السياسي طبق غالبية الناس غير المهتمين اصلاً بالسياسة وعالمها والحكم ومسؤولياته والديموقراطية وأنيابها قاعدتهم: «اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفهوش». ولذلك رضي المصريون بأن تبقى الوجوه نفسها عشرات السنين تحكم وتعارض في آن معاً. لم تهتم فئات الشعب من الاساس بلعبة السياسة وانصب الكفاح غالباً على النضال من أجل لقمة العيش وتدبر الحاجات الاساسية ومقاومة المحن والمصائب التي قد تفرض اعباءً مالية على الاسرة والفرد. وأخيراً جاء الوقت الذي ظهرت فيه حقائق العلم التي اثبتت انه بفعل «الدهون» و»التعتق» لم تستطع تلك الوجوه أن تحكم بسياسات تقبلها المعارضة أو تعارض بآليات ووسائل يرضى بها الحكم. وعلى رغم أن الدكتور أحمد نظيف تخلص من بعض «الدهون» عندما شكّل حكومته قبل سنة فأنعش الجهاز التنفيذي في الدولة وشعر الناس بأن تغييراً حدث وأن دماء جديدة تنساب وتتدفق في عروق الدولة وشرايينها، إلا أن «دهن العتاقي» ما زال يملك الصلاحيات الاكبر ولديه القدرة على أن يعرقل حركة الاصلاح، قد تكون «دهون العتاقي» أحد أسباب تفجر الحركات المطالبة بالتغيير في مصر في الفترة الأخيرة: «الحركة المصرية من أجل التغيير» المعروفة باسم «كفاية»، «الحركة الشعبية من أجل التغيير» و»صحافيون من أجل التغيير» و»أدباء من أجل التغيير» و»نقابيون من أجل التغيير»، لكن المرء يشعر بأن التغيير المطلوب لا يتوقف فقط عند الاجهزة التنفيذية في الدولة. وأن الهدف ليس فقط إبعاد الاجساد التي ترهلت بفعل «الدهون» حتى أن طلاب السنوات النهائية في كلية الإعلام مثلاً لم يعرفوا رؤساء تحرير صحف ومجلات حكومية غير هؤلاء الذين يطالعون أسماءهم كل يوم، لأن «رؤساء التحرير العتاق» في مواقعهم قبل أن تولد غالبية الطلاب أصلاً. وما الحديث عن أزمة الصحافة المصرية مهنياً ومادياً إلا نتيجة ل «لدهون» التي كان يعتقد أنها الميزة الأولى في رؤساء التحرير، فظهرت تأثيراتها السلبية في الصحافة المصرية العريقة. وإذا جنبنا رؤساء أحزاب غير مؤثرة تسير على المثل الشهير «معاهم معاهم عليهم عليهم» ولا يعرف الناس عنها شيئاً، فإن زعماء الأحزاب الكبيرة: التجمع والوفد والناصري وكذلك حركة «الإخوان المسلمين» من قدامى «المعتقين» وينافسون «معتقي» الحكومة دهوناً بدهون، فإذا كان رئيس مجلس الشورى السيد صفوت الشريف من مواليد العام 1933 ووزير مجلسي الشعب والشورى كمال الشاذلي من مواليد 1934 ورئيس مجلس الشعب الدكتور فتحي سرور من مواليد العام 1932، فإن مرشد الإخوان محمد مهدي عاكف قارب الثمانين، ورئيس حزب التجمع الدكتور رفعت السعيد تخطى السبعين بثلاث سنوات، ورئيس الحزب الناصري السيد ضياء الدين داود سيبلغ الثمانين قريباً. لم تظهر حركات التغيير نتيجة لسلوك الحكم فقط، ولكنها وجدت أن الريجيم (الحمية) لن يجدي لإصلاح أحزاب المعارضة ولم يعد مؤثراً، فالأحزاب بالنسبة الى جيل «كفاية» ناصبت الحكم العداء على استحياء لمجرد اثبات مواقف غير موجودة اصلاً وفي أوقات أخرى والت الاحزاب الحكم عندما اتفقت مصالحها مع مصالحه. «دهون معتقي المعارضة» كادت أن تصيب الحركة السياسية في مصر بالجمود كما الحال بالنسبة الى أجهزة الحكم، وإذا كان منطقياً أن يجمع الحكم في جسده بعضاً من المعتقين مفاخراً ب «دهونهم» التي قد يرى انها تسهم في تحقيق استقرار وتوازن في المجتمع، فإن أمراض المعارضة كادت أن تسد شرايين النشاط السياسي في البلاد وهي التي كان يفترض أن تقدم القدوة، فظهرت حركات التغيير الخالية من الكولسترول، والاكثر قدرة على الحركة والمرونة والاندفاع غير المكترثة بقيود لم تسعَ الاحزاب الى تجاوزها عندما رضيت بأمر واقع فرضه عليها الحكم. ربما يرصد البعض تجاوزات للمعارضة الجديدة تمثلت في هتافات وشعارات تقترب من السباب والشتائم ما يسيء الى القائمين عليها ويثير الخشية من أن يسود اعتقاد بأن المعتقين من السياسيين كانوا على حق عندما استحوذوا لأنفسهم على مواقع الحكم والمعارضة ليحموا الشعب من انفلات جيل لا يقدر قيمة «العتاقي» حتى لو كانت انسجتها مشبعة بالدهون. --------- صحيفة الحياة اللندنية في 29 -6 -2005