لاشك أن النظر إلى المشهد السياسى المصرى يصيب الكثيرين من المؤمنين والمخلصين، فضلاً عن الوطنيين الحقيقيين بالضجر والضيق مظنة أن ما يحدث هو إرهاصات لحرب أهلية يمكن أن تندلع فى أى لحظة من لحظات الاحتقان الذى لم يتوقف منذ تنحى الرئيس المصرى المخلوع حسنى مبارك فى فبراير 2011م، خاصة أن بعض القوى والتيارات السياسية الليبرالية واليسارية مازالت تصر على استمرار اشتعال الموقف وبقاء مصر عند نقطة بعينها دون النظر لأهمية وحتمية حلحلة الوضع والانتهاء من المرحلة الانتقالية بما يسمح للقائمين على أمر إدارة البلاد بالانتقال من مرحلة إعادة ترتيب الأوراق إلى مرحلة البدء فى عملية البناء والتنمية والتركيز على تنفيذ المشروعات النهضوية التى تحقق للجماهير المصرية ولو الحد الأدنى من تطلعاتهم وطموحاتهم على مختلف المستويات. والحقيقة أن هواجس هذه الفئة تحمل العديد من الدوافع المنطقية والعقلية، فالاشتباكات الواقعة مؤخرًا دفعت بالجميع إلى أن يضع يده على قلبه، فليس أقسى ولا أخطر من أن يسقط قتلى ومصابون فى ساحات وميادين مصر بأيد مصرية، الأمر الذى كان ينذر بأنه من المحتمل والمرجح أن تنجرف لبلاد وتنزلق فى حمام من الدم والدخول فى صدام مسلح بين الفرقاء السياسيين بدعم مالى وسياسى من أطراف داخلية وخارجية تعمل وبكل ما أوتيت من قوة على إفشال مشروع الثورة المصرية والعودة بالبلاد إلى النقطة صفر. لكن فى المقابل، فإن الموضوعية أيضًا تقتضى منا وعلى خلفية هذه الأحداث أن نشير إلى مسألتين هامتين: الأولى: أن ما تعيشه البلاد فى أعقاب ثورتها من خلافات واحتدام فى المواقف وصراع على أشده هو فى العرف التاريخى للثورات أمر طبيعى شهدته أغلب الثورات فى دول العالم، بل كان النموذج المصرى أخفهم حدة مقارنة بما كانت عليه بقية الثورات، بل ومقارنته بما تشهده فى الوقت الحالى الثورة الليبية أو الثورة السورية، ومن ثم فإنه بالإجمال لا يجوز النظر للأوضاع باعتبارها فشلا ثوريا بقدر ما يمكن اعتباره فرزا ثوريا جديدا يصنف القوى والتيارات السياسية، فإما أن تكون هذه القوى منتمية حقيقة للثورة وأهدافها، وإما أن تكون فى خندق استغلالها والركوب عليها والترويج لنفسها على أنها المتحدثة باسم الشعب أو الوصية عليه. الثانية: أن هذه الأحداث الجارية أبرزت العديد من الدورس والعبر بل والإيجابيات أيضًا التى يمكن أن تستفيد منها الحركة الإسلامية خلال المرحلة المقبلة - بإذن الله - فى التعاطى مع المشكلات المستقبلية التى تؤكد كل المؤشرات على أنها ستتواصل وتتكرر مرارا طالما بقى فى مصر تيار إسلامى تتنازعه توجهات سياسية أخرى تتبنى من النظريات والأطروحات السياسية والفكرية ما يتناقض - إلى حد كبير - مع ما يطرحه الإسلاميون، فضلاً عن تفهم أحوال وأوضاع المخالفين للتيار الإسلامى، وعليه فإن الإسلاميين يفترض أن يستبشروا خيرًا بما يجرى وألا يصيبهم الإحباط والقنوط، فعسى أن يكون فيما يحدث خير كثير، غير أن الإسلاميين مطالبون بالحرص على أن يسيروا على الطريق السوى المرضى لله عز وجل والمحقق لتطلعات الناس، ولهم فى حادثة الإفك المثل والعبرة إذ يقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، [النور: 11]. وفى سطورنا المقبلة نسعى إلى رصد عدد من الإيجابيات على خلفية هذا المشهد ومنها: 1- أن المواقف السياسية الشاذة والفجة للتيارات الليبرالية واليسارية بدءًا من الاستفتاء على الإعلان الدستورى فى 19 مارس 2011 ومرورًا بالانتخابات البرلمانية ثم الانتخابات الرئاسية ثم الموقف من الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2011 وما يحدث الآن من رفض للاستفاء على مسودة الدستور عرت حقيقة موقف هؤلاء من الديمقراطية وآلياتها وأنهم لا يسعون فعلاً لتحكيم إرادة الناخبين، فبدلاً من أن يكون انحيازهم لما يريده الشعب وفق بديهيات الديمقراطية لاحظنا أن هذه التيارات وعبر كل المواقف السابقة تمارس شكلاً من أشكال الوصاية على الشعب والادعاء بأنهم - أى النخبة الليبرالية واليسارية - أدرى بمصلحة البلاد والعباد. ونعجب أشد العجب عندما يردد أحد هؤلاء أن الشعب غير ناضج وأن الإسلاميين يقودون الشعب كيفما يشاءون بطرح شعارات دينية تدغدغ المشاعر وهى مبررات لا منطق فيها ولا تعكس إلا مدى تهافت هؤلاء، فلم يعد لهم قواعد حقيقية فى الشارع وما يملكون إلا العمل على استمرار توتر الموقف. 2- ومن بين الدورس أن الإسلاميين بمختلف مدارسهم واتجاهاتهم أصبحوا على يقين تام الآن أن الفرقة التى عاشوها خلال الفترة الماضية كانت سببًا أساسيًا لتفاقم المشكلات التى تعرضوا لهم، وأن الأزمة الأخيرة أكدت أن توحدهم أحد أهم الأسباب الكبرى لنجاح مشروعهم فموقفهم التضامنى مع الدكتور محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين حال دون إسقاط شرعية الرجل وأفشل مخطط نشر الفوضى. ويرتبط بهذا أيضا أن الإسلاميين وخاصة جماعة الإخوان أصبحوا على وعى كامل بأن مد أيديهم لغير الإسلاميين بالتحالف والتنسيق السياسى وفتح الأبواب لبعض المعادين للمشروع الإسلامى لدخول البرلمان عبر قوائمهم كان خطأً إستراتيجيًا يفترض أن يتم مراجعته وإعادة التفكير فيه. فما كان لبعض رموز وقيادات ما يسمى بالتيار الشعبى وجبهة إنقاذ مصر أن يكونوا بين أعضاء البرلمان إلا بترشحهم على قائمة التحالف الديمقراطى التى كان يقودها حزب الحرية والعدالة – الجناح السياسى للإخوان – ومن ثم فإن من المنتظر فى المرحلة المقبلة – إن شاء الله – ألا يتم الالتفات لهؤلاء مرة أخرى، خاصة أن وجودهم الشعبى ليس له قيمة تذكر وأن يتركز التنسيق والتحالف السياسى بين الإسلاميين بعضهم البعض. وفى هذا السياق، لا يفوتنا أن نشير إلى الدور الذى لعبه الإسلاميون وبكل أسف فى مرحلة ما قبل الثورة لتلميع الدكتور محمد البرادعى الذى لم يكن له أى وجود شعبى حقيقى فى الشارع، لكن الإخوان المسلمين عقدوا له المؤتمرات الجماهيرية فى العديد من المحافظات والمدن المصرية ما كان السبب فى تزايد شعبيته وتقديمه باعتباره قائد التغيير السياسى فى مصر غير أن الرجل سرعان ما تحول بعد الثورة إلى قائد للهجوم عليهم وعلى مشروعهم وهو ما سيكون له بالطبع أثره وانعكاسه على موقف الإخوان، فيما هو مقبل من عملية التنسيق مع القوى والشخصيات الرافضة للمشروع الإسلامي. 3- تنبه الإسلاميون لأهمية الإعلام ومدى تأثيره على الناس، فبلا أدنى مبالغة تعد المعركة الحالية معركة إعلام بعد أن تسلح المعادون للإسلاميين وتترسوا خلف عشرات القنوات الفضائية والصحف التى تنفق مليارات الجنيهات وتعمل ليل نهار على تشويه الرموز الإسلامية وأطروحاتهم، ولهذا فإن من المنتظر أن يستجيب الإسلاميون فى المرحلة المقبلة للأصوات التى بحت تتحدث فى الفترة الماضية عن أهمية الإعلام وحتمية إقامة مؤسسات إعلامية كبيرة تتجمع فيها الإمكانيات البشرية والمالية فى محاولة لمنافسة وسائل الآخرين. والحديث عن فساد الإعلام وتزييفه ليس حديثا مرسلا أو بلا دليل، فقد نشرت العديد من الصحف المصرية قبل أسابيع تقارير رقابية أكدت أن نحو 6.5 مليار دولار دخلوا مصر خلال عامين فقط كدعم وتمويل لبعض القنوات والصحف الخاسرة بهدف العمل على إثارة الفوضى والبلبلة فى مصرن وهو أمر لو كان صحيًا لأوجب على السلطة فى مصر سرعة التحرك بما لديها من معلومات لوقف هذه المهازل الإعلامية التى باتت خطرا حقيقيا يهدد أمن واستقرار البلاد. 4 - كشفت الأزمة الأخيرة إلى أى مدى تتوق الجماهير المصرية لتطبيق الشريعة الإسلامية وأثبتت أن المصريين وعلى الرغم من عملية الإفساد الممنهجة التى مارسها النظام السابق لمنظومة القيم لدى هذا الشعب إلا أنه مازال يعتقد كل الاعتقاد أن الحل الوحيد لانتشال البلاد مما تعيشه هو بالعودة للإسلام. وقد تجسد هذا بوضوح فى الموقف الشعبى من استفتاء مارس والانتخابات البرلمانية والرئاسية حيث استجابت الأغلبية الشعبية لنداءات الإسلاميين بالانحياز لمواقف دون مواقف. بل كان من اللافت للنظر أن البعض ممن يحسبون على القوى والتيارات العلمانية والليبرالية يتمسحون فى الشريعة فى محاولة منهم لخداع الجماهير وتقديم أنفسهم وكأنهم ليسوا ضد ما يطالب به الإسلاميون من تحكيم لشرع الله وأن الخلاف مع الإسلاميين مقتصر على رغبتهم فى الاستئثار بالسلطة وفق ادعاءاتهم. 5 – ليس من شك فى أن من أهم دروس الأزمة هو تكشف الوجه الحقيقى لإيران التى كانت تظن بعض الأطراف الإسلامية انحيازها للإسلاميين ومشروعهم، غير أن هذا تبدد تماما مع أول محك واختبار إذ كان انحيازها فى الأزمة الأخيرة للسيد حمدين صباحى قائد التيار الشعبى الذى وقف بالمرصاد للإسلاميين فى كل صغيرة وكبيرة، كما أن أتباعها من عناصر الأحزاب للشيعة المصرية لم يترددوا فى الخروج فى التظاهرة الاحتجاجية ضد الدكتور مرسى وقراراته الأخيرة. وليس من شك فى أن هذا الموقف الإيرانى سيكون دافعا إلى تلاشى أحد حواجز تقريب العلاقات بين الاتجاهات الإسلامية فى مصر، إذ كان الموقف من إيران أحد الإشكاليات التى ما فتئت تثير الكثير من الجدل فيما بينهم.