ما هو المشهد التنموى السياسى الحقيقى فى مصر؟ لقد اخترنا نظامًا للحكم يستوجب عليه أن يعمل بشفافية، أليس هذا أبسط حقوقنا؟ لقد اختار الشعب مشروعًا لا شخصًا كما نصت على ذلك دعاية رئيس الجمهورية الحالى ورغم انقضاء ستة أشهر على ذلك لم نسمع عن ذلك المشروع إلا أنه مشروع فكرى سيُطرح على المجتمع ليتوافق عليه وهو أمر مثير للدهشة لأن التوافق باتت كلمة ذات رائحة غير محببة بعدما أنفقنا فيها الوقت دون جدوى وكأننا لا نتعلم الدرس. وبحثًا عن التوافق المزعوم طالعتنا الأخبار باستقالة أحد أعضاء مجلس الشورى المعينين لغياب التوافق! قضية التوافق لعبة سياسية كريهة تشير إلى غياب الفكر الذى يمكن أن يتمحور حوله الوطن، مع التركيز على إنجاز العدل للجميع فالعدل أساس الملك كما أن أية صيغة من صيغ التنمية تظلم أو حتى تضغط على أى فصيل من فصائل الوطن لن تضيف للمجتمع مهما كانت براقة. يتركز جانب كبير من المشهد السياسى الحالى فى الإجابة عن: أين المبادرة التى ينتظرها الوطن؟ ألم يدرك الجميع أن الوطن يحتاج إلى مبادأة ومبادرة بحزم وحسم بدلاً من التوافق؟ ماذا تعلمنا من الشهور الماضية؟ بماذا شعر المواطن العادى سوى تتابع حكومات لم تؤثر فى نهج حياته إلا من خلال زيادة الأسعار وعدم انضباط الشارع؟ من المؤكد أن الاعتصامات والاضرابات قد ساعدت على تدهور بنية الإنتاج، ولكن ألم تكن تلك الأعمال متوقعة؟ فماذا فعلنا لتفاديها وتفادى آثارها؟ القضية أكبر من أن تترك دون حسم. وسط هذا الفراغ الفكرى تطالعنا أنباء دعوة أحد مستشارى الرئيس لليهود الذين تركوا مصر للعودة إليها ولا أدرى لماذا قفز إلى ذهنى الربط بين ذلك الموضوع وما يصدر من قرارات تحد من التملك فى سيناء إلا للمصريين؟ أعتقد أن هذه الدعوة بمخالفتها لصحيح المنطق الوطنى عبارة عن مراهقة فكرية ما كان لها أن تنطلق لا اليوم ولا فى أى يوم، وكالعادة هى تترك على الساحة المشتعلة سياسيًا والفارغة فكريًا لأسباب قد تكشفها الأيام وإن كان من المنطقى أن نربطها بغياب النهج الفكرى للحكم الآن! ستمر الأيام وسيذكر التاريخ أن كل يوم يمر دون البدء فى مشروع إنهاض للوطن يحسب على الفصيل الحاكم توافق أم لم يتوافق وعليه أن يدرك ذلك لأن الوطن أمانة عند من يؤتمن على مقدرات الدولة وعلى الفصيل الحاكم ألا يتلهى عن مهمة تنمية الوطن أو يتشاغل عنها وأن يركز على مقومات التنمية الحقيقية من خلال خطة قومية تضيف فى اتجاه محدد ولا تتشاغل عنها مهما كانت الظروف، بل وتوظف أية محاولة لتشتيت جهود أبناء الوطن فى دفع خطة التنمية المنتظرة! ولأكرر الوطن يحتاج إلى خطوة غير مسبوقة تدفعه لمكان يستحقه. وفى هذا الإطار تطالعنا الأخبار عن تبنى وزارة الصناعة والتجارة الخارجية برنامجًا لنقل المصانع الأوروبية المهاجرة التى تواجه صعوبات فى دولها والمرتبطة بارتفاع تكلفة الإنتاج إلى مصر باعتباره فتحًا عظيمًا ونحسبه كذلك نتيجة غياب فكر قومى رغم أنه فى حقيقته استقبال لنفايات الغير مثلما حدث مع مصانع الأسمنت التى يدعمها الوطن لتلوث البيئة وتركز عائداتها فى أيادى قليلة متغافلين أن نتساءل عما أسدته تلك المصانع لتنمية الوطن. قضية التنمية أكبر من أن تترك للعشوائية ولابد للحكم أن ينهض من حالته الفكرية ليواجه المجتمع بحقيقة الأمر وأن يشرك الجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية لتنمية الوطن حتى لا نصل إلى حالة الرئيس السابق: دعوهم يتسلوا، لأن الزمن غير الزمن، كما أن حالة التوهان الفكرى الحالية ستدفع المجتمع إلى توجه فكرى مضاد لتوجه الحكم الحالى بصورة حادة قد تصل إلى تجذير لآليات فساد أعمق مما شهدناه فى العهد السابق إنقاذًا لظاهر التنمية! وبعيدًا عن الموقف السياسى الحالى تطالعنا الأنباء عن تبعاته فى الشارع الذى يمكننا من خلال التجوال فى شوارع وسط العاصمة أن نشاهد كم التعديات على نهر الشارع مما يعيق مرور السيارات والمارة ولا أدرى أين ذهبت شرطة المرافق؟ ولا يقف الأمر عند هذا الحد مع الكم الكبير من السيارات التى لا تحمل أية أرقام مرورية والتى لا تخطئها العين صباح مساء وكأننا بلا قانون. ولنتساءل أين شرطة المرور؟ وكيف يمكن لنا أن نعيد انضباط الشارع؟ ولماذا الانتظار لتنفيذ أية آلية فاعلة لتنمية المجتمع؟ فى البرازيل استغرق الأمر ثلاث سنوات لسداد جميع ديون الدولة بعدما كانت على حافة الإفلاس، أى استغرق الأمر ستة أمثال ما انقضى من عمر الجهورية الثانية التى بدأت مع انتخاب رئيس الجمهورية فماذا فعلنا نحن مع وضع أقل مأساوية من وضع البرازيل فى ذلك الوقت؟ أهى الأيدى المرتعشة؟ أهو الغياب الفكرى؟ فى هذا المشهد لم يكن من المستغرب أن يمتد الأمر إلى الجانب الأخلاقى والذى تمثل فى أخبار اختطاف مسلحين لموظفة والاعتداء عليها جنسيًا فى القاهرة! والعجيب فى الأمر أن الحكومة بدت غير مكترثة بالأمر رغم أنها حكومة من توجه أخلاقى كما تطالعنا الأخبار. وحتى نتبين توجه الحكومات الأخرى تجاه فعل مماثل فى الهند فلقد قامت المظاهرات للتنديد بفعلة مماثلة واتجهت إلى القصر الرئاسى وعلى الفور تعهد رئيس الحكومة الهندية (وليس المصرية) باتخاذ سلسلة من الإجراءات الفورية الرادعة لجعل المدينة أكثر أمناً للنساء واضطر وزير الداخلية لتقديم بيانين للشعب فى مجلس الشيوخ حول الواقعة وما تم فيها؟ هذه هى الهند فهل نتأسى بها؟ وتلك كانت البرازيل فهل لنا فيها قدوة؟ وثالثة ورابعة ولكن يبدو أن الأمر أعصى على الفهم! لقد انتفضت الجماهير ضد الظلم فهل ما يحدث الآن فى الشارع المصرى ظلم أم عدل؟ فى عدم الضرب على أيادى المخالفين ظلم للملتزمين وأى ظلم. فى ما نراه من تغول لفساد المحليات بالقانون ظلم للملتزم وإضرار بمصالحه. فى إغفال النقابات المهنية النظر لصالح الوطن بالضرب على أيدى أعضائها الفاسدين ظلم بين. فى إغفال تنمية الوطن ظلم للوطن جميعه بأفراده وبمقوماته. لن يأكل الوطن من التوافق ومن محاولة إرضاء من يسيرون فى عكس اتجاهه، بل سيأكل وينعم الوطن من خلال تنمية حقيقية. ولنتعلم درس الاستفتاء على الدستور والذى أشار إلى عزوف نسبي عن المشاركة السياسية حتى لا يأتى مجلس الشعب القادم بدون توجه حقيقى فتتعقد آليات التنمية ولا تستطيع الحكومة إنفاذ أية خطط تنمية حقيقية. لا يجب أن ننشغل بالانتخابات القادمة عن التنمية فهى مفتاح ذهبى لاستحقاق الوطن. الحكم ليس غاية فى ذاته إلا عند شذاذ الأفكار، وهو وسيلة نبيلة لتنفيذ فكر تنموى متقدم يدفع المجتمع للأمام. يقول أدولف هتلر: إذا حققت النصر فليس مطلوبًا منك أن تبرر ذلك، ولكنك إن هزمت فمن الأفضل ألا تكون موجودًا لتبرر ذلك. أتمنى أن نتفهم أن الحكم ليس مساجلة بين أعضاء يقفون جميعًا فى صف المعارضة بل هو مسئولية لا يجب أن يتصدى لها إلا من يستحقها ويقدر على تكاليفها. لقد أتى الشعب بتوجه ارتضاه وعليه أن يبرهن أنه يستحق مكانه وأنه قادر على تحمل تبعات العمل بكفاءة تصل إلى حد الاتقان الذى تتوقعه الأمة جميعها بلا تهاون ولا توانٍ وإلا...!