كان أحد أهم المكاسب التي تمخضت عنها إنتفاضة الأقصى هو ترسيخ مبدأ التبادلية الذي وضع حدا لمعاناة الفلسطينيين المجانية. فقد تجاوز عدد القتلى والجرحى الإسرئيليين خلال الانتفاضة عدد قتلاهم وجرحاهم خلال أي من حروبهم مع العرب. غير أن كثيرين من رجال السلطة في الصحافة والإعلام الذين دأبوا على إنتقاد أعمال المقاومة بذريعة "سحب الذرائع" من شارون ، لم يعيروا أدنى اهتمام بعشرات القتلى الفلسطينيين العزل الذين سقطوا منذ مؤتمر شرم الشيخ وتفاهماته التي قذف بها شارون إلى المرحاض ، ورغم الهدنة التي التزمت بها فصائل المقاومة. وهذا بالضبط هو أحد أهم أهداف شارون الذي تسعى المقاومة إلى إجهاضه. فمنذ إقتحامه للحرم القدسي في سبتمبر 2000 بتواطؤ من إيهود باراك لاستفزاز العنف الفلسطيني واستغلاله كذريعة لشن حرب تصفية ضد الفلسطينيين ، وشارون يسعى لتحويل قتل الفلسطينيين وتهويد القدس وتهديد الحرم إلى روتين لايلتفت إليه أحد. وحتى يطمئن شارون إلى أن الحكام العرب رضوا بالانبطاح وفرض هذا الانبطاح على أبو مازن ، سيكون عليهم أن يقروا (صمتا) بأن قتل الفلسطيني وتهويد القدس حق لإسرائيل يجب ألا يعترض عليه أحد . وفي حالة الحكام العرب ، وعلى رأسهم مبارك ، فإن الصمت فيما يخص فلسطين يكون أبلغ من أي حديث . ولهذا السبب تسعى المقاومة لإقناع أبومازن بخيار التبادلية ، وعدم السكوت على أي انتهاك إسرائيلي للتهدئة. هذا الخيار يمقته الرئيس مبارك القلق من كل ما يمت للمقاومة والممانعة بصلة بعد أن أجبره شارون على نبذ شعار (الأرض مقابل السلام) المعلن ، وتبني شعار (العرش مقابل القضية) بلسان الحال . فإزاء كل الهدايا المجانية التي سلمها الرئيس مبارك إلى شارون وإدارة بوش (إطلاق عزام توقيع الكويز فتح أبواب التطبيع لإسرائيل مع العرب إستقبال شارون في مصر وفك عزلته الدولية إعادة السفير إلى تل أبيب تدعيم موقف شارون أمام شعبه بتمكينه من الوفاء بما وعد به : ترويض الحكام العرب إلتزام صمت القبور فيما يتعلق بسورالفصل وتوسيع المستعمرات والأسرى الفلسطينيين وتهويد القدس، المدينة المقدسة لشعب مصر بمسلميه ومسيحييه). المطلوب هو التضحية بكل ما يتعلق بالقضية من ثوابت ومقدسات ، وهو ما يؤكد أني لم أكن مبالغا عندما وصفت القيادة المصرية بأنها كنز ثمين بالنسبة لشارون وحلفائه في واشنطن يستحيل التفريط فيه. الذريعة التي ترددها جماعة النفاق المنهزمة المحيطة بمبارك لتبرير التفريط في فلسطين والانبطاح أمام شارون ، هو أن مصر تأتي أولا ، وأن "الشعب عايز يعيش". وهذا طبعا هراء يراد به التدليس على الحقيقة التي تقول أن فلسطين ومصر تباعان بأبخس الأثمان من أجل تأمين عرش آل مبارك . فمنذ عشر سنوات تقريبا رفضت مصر التوقيع على التمديد الأبدي لإتفاقية حظر إنتشار السلاح النووي ، وإشترطت توقيع إسرائيل مقابل توقيعها. ثم نشرت الواشنطن بوست مقالتين عن صفقات سرية تجري مع القذافي ، وبعد نشر هذين المقالين بأيام إنصاعت مصر لما يراد منها ووقعت على التمديد الأبدي . كما كتب الأستاذ محمود عوض في (الحياة 3/7) كيف أن "السلطة المصرية تعاملت مع زيارة رايس بتشوش وارتباك وضاعفت من وتيرة التنازلات عبر بيع ركائز مهمة في الاقتصاد المصري ، وقام محافظ البنك المركزي بتبشير الأمريكيين وصندوق النقد الدولي بأنه حتى البنوك الأربعة المصرية الكبرى سيجري بيعها ، وهي البنوك التي تمثل الوعاء الأخير لمدخرات المصريين وآخر حصانة لما تبقى من إقتصادهم." وهكذا تتضح قواعد اللعبة التي تشارك فيها عصبة مبارك والادارة الأمريكية : الأولى تدافع عن مصر وقضايا العرب علنا وتبيعها سرا مقابل أمنها وأمن عرشها ، والثانية تدافع عن الديمقراطية علنا وتبيعها سرا مقابل تنازلات فادحة من مبارك في فلسطين والعراق وغيرهما. باختصار، العرش يأتي أولا ، ولتذهب فلسطين ومصر والقدس إلى الجحيم .