توصيف المشهد السياسى المصرى اليوم أمر مهم حتى نفهم المعادلة.. هناك أكثرية توافق على مسودة الدستور وأقلية ترفضه, هناك أكثرية تؤيد الشرعية وأقلية تحاول أن تقفز عليها, هناك أغلبية تسعى للاحتكام لصناديق الاقتراع وأقلية تهرب منها, هناك أغلبية ترى أن الاستقرار يبدأ بإقرار الدستور وأقلية تجنح لإطالة زمن الفترة الانتقالية, هناك أكثرية تتجه بقوة نحو بناء مؤسسات الدولة وأقلية يحلو لها أن تظل الأمور فوضى لا رابط لها ولا ضابط. هذا هو التوصيف الصحيح للمشهد السياسى الراهن, أما ما يقال عن هذا التوصيف بأنه حالة انقسام فى الشارع المصرى فهو تصوير خبيث متعمد روجت له وسائل الإعلام المغرضة, وألسنة الساسة التى أعياها أن تجد قبولاً لدى أغلبية الجماهير.. وإذا كان الاختلاف بين المؤيدين والمعارضين يفسر على أنه انقسام فكل شعوب العالم إذن منقسمة, وكل بلاد العالم الغربى التى صدرت الديمقراطية منقسمة. فالدستور الفنزويلى أقر بنسبة 50,3%, والدستور الفرنسى أقر بنسبة 53%, والدستور الإيطالى أقر بنسبة 61% وهى أعلى نسبة أقر بها دستور فى العالم, قبل الاستفتاء على مسودة الدستور المصرى, ثم كان إقرار الدستور المصرى بأغلبية 64% وهى أعلى نسبة أقر بها دستور فى العالم حتى الآن. ووفق منطق المفسرين للأقلية والأكثرية بحالة الانقسام تعد مصر - والحمد لله - أقل دول العالم انقساماً.. ثم اخترع هؤلاء المفسرون لفظة جديدة تسمى التوافق ليستروا بها حجمهم السياسى فى الشارع المصرى، وفى قاموس الديمقراطية الصحيح لا توجد لفظة توافق, ولكنها بدعة استحدثها التيار الليبرالى واليسارى والعلمانى ليعرقلوا مسيرة الديمقراطية باسم الديمقراطية, وكان المرادف لكلمة التوافق فى قاموسهم هو الإجماع, وهو شىء متعذر إن لم يكن مستحيلاً, لكن متى كان التوافق وارداً فأهلاً به، أما إذا تعذر فما السبيل؟ وما المخرج؟ النقل الصحيح والعقل السليم والديمقراطية التى يتشدقون بها يقضى هذا كله بترجيح رأى الكثرة, فالكثرة أقوى مسالك الترجيح كما يقول الأصوليون. اللهم إلا إذا ادعت الأقلية أنها يوحى إليها وأن ما تبديه من آراء إنما هى نصوص معصومة قاطعة لا تقبل المراجعة ولا المناقشة, وأن النبوة مستمرة فيهم, وما على الأكثرية إلا أن تقول: آمين، لأنه قد استقر لدى الأصوليين أنه لا اجتهاد مع النص.. وقديماً ادعت امرأة النبوة فى عهد هارون الرشيد فجىء بها إليه فى حضرة العلماء فقال لها: أتؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم. فقال: إن الذى تؤمنين به قال: "لا نبى بعدى"، فقالت: نعم ولكنه لم يقل: "لا نبية بعدى". فحينئذ أعياه الجواب وقال لمن حوله: "أما أنا فلم يعد لدى جواب".