ما زلت عند رأيي بأن واحدًا من أهم عوامل قيام الدولة المصرية الجديدة هو وجود معارضة قوية وحكيمة في الوقت نفسه، قوية ببرامجها وأطروحاتها وبدائلها التي تجعل المواطن في حيرة حقيقية بين خيار ملائم وآخر أكثر ملائمة، بدلا خياري الأسود والأبيض، وحكيمة في مواقفها وقراراتها التي تعلي فيها مصلحة الوطن على مصالح الأشخاص المحدودة. انظر للمصالح التي تنعكس على الشأن الداخلي عندما تتواجد هذه المعارضة من زاويتين: الأولى: توعية الشعب المصري بحقوقه وواجباته ومشاركة الحكومة في إيجاد القنوات السلمية التي تساعده على التعبير عن رأيه مما يثري الحياة السياسية المصرية التي تم إفقارها لعقود طويلة. الثانية: تهديد دائم لمن وصل لكرسي الحكم عبر إرادة الشعب الحرة بأن هذه الإرادة تمثل عقدًا محدود المدة، وجب عليه خلالها أن يحافظ على تفوقه وجودة أدائه وإلا فإن البديل الكفء موجود، وفي ظل مبدأ تداول السلطة الذي يكفله الدستور يصبح السعي للحكم عبر الطرق الشرعية هدفًا مباحًا ومتاحًا للجميع. لا أبالغ إذا قلت أن الفجوة هائلة بين الواقع والمأمول، إذ أن المعارضة المصرية تقدم واحدًا من أسوأ المثل في العالم للأداء الذي يناقض كل مفاهيم الديمقراطية الثابتة في التاريخ، ولعلي هنا أضرب بعض الأمثلة التي توضح ذلك: 1. بعد إعلان نتيجة المرحلة الأولى بتأهل مرشح الإخوان المسلمين للإعادة، اشترطت عليه القوى السياسية لكي تسانده أن يتخلى عن حزبه وجماعته، وأخذوا عليه العهود والمواثيق بأنه سوف يشرك معه في الحكومة وفي مؤسسة الرئاسة التيارات السياسية المعارضة، وفي نفس الوقت يقاطعون العمل معه لأنه يمثل أيديولوجية مختلفة (على سبيل المثال: اعتذر المحافظ الناصري عزازي على عزازي والوزير الوفدي منير فخري عبد النور عن العمل مع الرئيس)، وفي نفس الوقت يلومونه على التأخر في تشكيل حكومة، فيضطر الرئيس لاختيار حكومة غير متجانسة ينتج عنها بعض الأخطاء والتخبط في القرارات لاحقًا، فيكونون أول من يرفعون أصواتهم بالشتائم والانتقاد، ولا ينسون في هذه الأثناء أن يحملوا حزب الرئيس وجماعته - رغم أنهم دفعوه دفعًا للتبرؤ منهما - المسؤولية باعتباره الحزب الحاكم. 2. الجمعية التأسيسية تفتح الباب أمام الجميع للتقدم باقتراحات، فتمتنع جماعة عن التقدم بأي اقتراحات، ثم تجد نفس الجماعة تلقي باللوم على الجمعية لعدم الأخذ بآراء الآخرين!!! 3. الرئيس يدعو جميع القوى السياسية لحوار مفتوح غير مشروط، فيقاطع الحوار تيار من المعارضة، ثم تجد نفس التيار يتهم الحوار بأنه بين الرئيس ومؤيديه (ذكر أبو العلا ماضي رئيس حزب الوسط للإعلامي أحمد منصور أن نائب الرئيس اتصل هاتفيا ولأكثر من ساعة كاملة بالسيد محمد البرادعي لدعوته لحوار مفتوح، ولما وافق النائي على شروط البرادعي كاملة للحضور اعتذر البرادعي في نهاية المحادثة متعللًا بأن الوقت غير مناسب). 4. اللجنة العليا للانتخابات تدعو جميع منظمات المجتمع المدني للتقدم بطلب للحصول على تصاريح لمراقبة الاستفتاء، فيقاطع مجموعة من المنظمات هذا الطلب، ثم تجد نفس الجماعة تملأ الدنيا ضجيجًا بأن من حصل على تراخيص هم من جماعة الإخوان. 5. بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، يتهمون الحكومة بتزوير الانتخابات، علمًا بأن النتيجة متقاربة (56% و 44%)، أي أنها لا ترقى لنتيجة مزورة، وفي نفس الوقت يقولون بأن هذه النسبة غير كافية لتمرير الدستور، ماترسولكم على رأي مزورة ولا لأ؟ 6. خلال الأيام التي سبقت مرحلتي الاستفتاء رأينا وسمعنا دعوات متكررة من أعضاء الجمعية التأسيسية التي وضعت مشروع الدستور لقوى المعارضة المختلفة لعقد مناظرات على الهواء يشرح فيها كل فريق وجهة نظره أمام الجماهير، وفي المقابل رأينا إصرارًا عجيبًا على الرفض من المعارضين الذين يفترض بهم أن يستغلوا الفرصة لبيان عوار المواد حسب نظرهم. هذه التصرفات وغيرها الكثير يضعنا أمام أسئلة كثيرة لعل أهمها: ما هي الأهداف غير المعلنة التي تسعى إليها المعارضة؟ وإذا كان طريق الحوار مرفوضًا بهذا الشكل، فما هي الطرق البديلة للوصول لحلول؟ أخشى أن تكشف لنا الإجابات عن مسائل تحتاج لتدخل جهات سيادية.