مستعد أنا للموافقة على الرقابة على الانتخابات رغم أن شبهة تلوث تثير المخاوف، وهي مخاوف مشروعة، سبق أن أبديت بعضها، وأبدى غيري أكثر منها. غير أن تلوث الجو بكثير من المسممات لا يعني ألا نتنفس فنختنق ونموت، إنما يعني أنه رغم التلوث في المناخ، فإن أنوفنا تتلمس الأوكسجين النقي وتتنسمه وتنتقيه من بين كل الملوثات المسممة، فهذه طبيعة الحياة. أسباب موافقتي على مراقبة الانتخابات عديدة، ألخصها في الآتي: أولا إن هذه المراقبة أصبحت عرفا دوليا تصل مصداقيته إلى درجة قوة القانون، بل إن بعض المفسرين يكاد يضمه إلى القانون الدولي وملحقاته.. ولم يعد أحد في هذا العالم سريع التغير قادرا على تحدي الإرادة الدولية ورفض قوانينها وشرائعها وعرفها وتقاليدها، اللهم إلا أمريكا المتغطرسة. وثاني الأسباب أن مصر وعديدا من الدول العربية قبلت هذا المبدأ من قبل، ورحبت به، بل وشاركت في تطبيقه عبر العالم في أكثر من مناسبة، بما يعني الاعتراف به سواء كان يخص أصغر دولة أو أكبرها. وآخر الأدلة أن القاهرة سبق لها أن بعثت وفودا رسمية وشعبية للمشاركة في مراقبة الانتخابات في دول عديدة، وأقربها الانتخابات الفلسطينية واللبنانية، وما تقبله على غيرك لا يمكن أن ترفضه لنفسك، وإلا سقطت المصداقية. وثالث أسبابي أن عصر العلم والمعلومات وثورة تكنولوجيا الاتصال، فتحا كل الأبواب المغلقة وكشفا الأسرار المخبوءة وكسرا القيود وعبرا الحدود، بلا قدرة على وقفها، فها هي الفضائيات وشبكات المعلومات والإذاعات، فضلا عن الصحف المطبوعة، تكسر بكل قوة احتكار الدولة أي دولة للمعلومات وتفض حجب الأسرار، وتبلغ العالم فورا بما يحدث في أي دولة بالصوت والصورة والمعلومة، فكيف يمكن لأي حكومة مهما كانت شراسة أجهزتها وقوة مؤسساتها أن تخفي عن الرأي العام المحلي أو الدولي حقيقة ما يحدث فيها، سواء عن الانتخابات أو غيرها؟ أما رابع أسبابي فهو أن عالم اليوم يعيش تحت هيمنة قوة باطشة، لا تتردد في فرض أهدافها وأفكارها بالقوة الجبرية، وها نحن نشاهد الولاياتالمتحدةالأمريكية تمارس ضغوطا عاتية على حكوماتنا خصوصا، لإجراء إصلاح ديمقراطي وفق الوصفة الأمريكية، الأمر الذي نعارضه بشدة، لكن حكوماتنا الرشيدة يبدو أنها تنصاع للضغوط الأمريكية، في حين تراوغ المطالب الداخلية، في أمر الرقابة على الانتخابات على وجه خاص، مما يدفع بعض أطراف اللعبة السياسية المحلية إلى حد الترحيب بهذه الضغوط الخارجية، بل والاحتماء بها للأسف! وبصرف النظر عن التلاعب بالمسميات، ما بين المراقبة أو الرقابة أو المتابعة أو الإشراف المحلي والدولي، إلا أن لي تحفظات أساسية، بعدما سجلت أسباب القبول، وأهمها: * التحفظ الأول يتعلق بجهود منظمات المجتمع المدني وخصوصا العاملة في مجال حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية في مصر على سبيل المثال، فهي بداية جهود طيبة ويجب تشجيعها، ليس فقط في مجال مراقبة الانتخابات الوشيكة، الرئاسية في سبتمبر والبرلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ولكن في مجال أعم وهو إقرار الحقوق والحريات بشكل عام. ولقد بادرت إلى الترحيب بتحالف هذه المنظمات، أكثر من عشرين منظمة، وتكوين مرصد لمراقبة الانتخابات المقبلة، والتشاور مع المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو منظمة حكومية كما نعلم لتحقيق هذا الهدف، غير أن تحفظي يكمن في أن بعض المنظمات المتحالفة تتلقى تمويلا أجنبيا، وأمريكيا بالتحديد، فوق الدعم السياسي والمعنوي، والتمويل الأجنبي شبهة، فهو لا يأتي إلا بشروط، وأول الشروط اتباع أجندة الممول وشروطه ورقابته على صرف وإنفاق تمويلاته، الأمر الذي نعارضه من حيث المبدأ ومنذ زمن بعيد، ولقد ابتعدت من قبل عن بعض هذه المنظمات لهذا السبب، اتقاء للشبهة، وأظن أن الأمر ينطبق على الكثيرين خصوصا كل الحريصين على إطلاق إصلاح ديمقراطي حقيقي “بيدنا لا بيد أمريكا” رغم كل الضغوط! * التحفظ الثاني، يتعلق بإصرار أمريكا على دس أنفها وإقحام نفسها في التدخل المباشر والسافر في عمليات مراقبة الانتخابات، بل في فرض الوصفة المعلبة المستوردة من واشنطن للإصلاح الديمقراطي عموما، وهو ما يلقي بالشبهة المفروضة، ومن ثم فهو يقابل برفض واستنكار أظنه عاماً. ما البديل إذن؟ أتصور أن البديل يكمن في اتجاهين: الاتجاه الأول، هو دعم خطوة إنشاء هيئة وطنية عليا لمراقبة الانتخابات، تتمتع بالاستقلال والنزاهة والمصداقية وحرية الحركة، تقودها رموز مشهود لها من كبار المثقفين والسياسيين والمستقلين والقضاة والصحافيين، وتضم تحالفاً حقيقياً بين المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي تثق به الدولة، ومنظمات المجتمع المدني البعيدة عن شبهة التمويل الأجنبي وأجندته وشروطه، والتي يثق بمصداقيتها الناس في بلادنا، وليس تلك التي يثق بها الممولون والمحركون في بلاد أخرى. فإذا ما نجحت هذه الهيئة في اختبار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الوشيكة، فسوف تصبح عنصراً رئيسياً من المعادلة السياسية وحافزاً مهماً للإصلاح الديمقراطي الحقيقي من ناحية، وسوف تصبح أيضا نموذجا للأشقاء والأصدقاء في كل مكان من ناحية ثانية. أما الاتجاه الثاني فيكمن في أن تتلبس الشجاعة والشفافية حكومتنا الرشيدة وحزبها الحاكم، فتدعو ممثلين لهيئات دولية معروفة، مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان واليونسكو وغيرهما من منظمات الأممالمتحدة، مع ممثلين للجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، وممثلين لمنظمات دولية وإقليمية مستقلة كمنظمة العفو الدولية والاتحادات المهنية العربية، وخصوصا اتحادات المحامين والصحافيين العرب وغيرهما، لتشكل معا هيئة مراقبة أو متابعة دولية ذات مصداقية لهذه الانتخابات. وأظن أن مثل هذه التوجهات تحقق الأهداف المرجوة، وتسقط حجج المشككين في نزاهة الانتخابات، مثلما تضعف ضغوط الضاغطين الذين نثق بأنهم لا يريدون إصلاحاً، بقدر ما يريدون فرض التدخل والانصياع لمطالبهم، وتفتح الباب واسعا، أمام الإصلاح الديمقراطي الذي يتمناه كل وطني صادق. لقد انتهى عصر “طبخ” الانتخابات على نار التزوير والتزييف، تماما مثلما انتهى عصر استفتاءات الثلاث تسعات الشهيرة والمريرة، وبدأ عصر الحرية والشفافية باسترداد المواطن لحقه المشروع في الإدلاء بصوته لمن يريد، والتعبير عن رأيه في كل شؤون الوطن، وانتخاب ممثله الحقيقي من عمدة القرية إلى رئيس الدولة. وأحسب أن منطقتنا العربية عموما، ومصر خصوصا، مقبلة على اقتحام هذه المرحلة بقوة دافعة وذات عافية، وأحسب أيضا أن هذا الصيف، الذي سبق أن وصفناه في مقالات عدة في هذا المكان بأنه الصيف الساخن اللاهب، سوف يشهد منعطفا جديدا يضع نقطة واضحة على سطح التاريخ الحديث. نقطة تدفعنا نحو الحرية أو تنتكس بنا إلى الكارثة! ونحن نريد الحق والتمتع بالحرية من دون سواها. *** * آخر الكلام: يقول عمر بن الخطاب: إن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل! ------ صحيفة الخليج الاماراتية في 20 -7 -2005