سيدي الرئيس المصريون جميعاً، معارضون أو مؤيدون انتهت الجولة الأولى من معركة الدستور، باعتبارها المعركة الأهم في تاريخ الثورة المصرية المجيدة، فقبل أن تتم هذه الجولة كان في تصوري الشخصي أن الجميع بلا أي استثناء كان خاسراً مهما كانت المكاسب التي حققها، ولكن بعد أن ظهرت النتائج الأولية التي تشير إلى أن السفينة المصرية ما زالت في عباب البحر ووسط محيط الصراعات؛ أعتقد جازماً أن الكل بلا أي استثناء خرج كاسباً وفائزاً ومحققاً انتصارات رائعة، ويمكن أن نتلمس هذه المكاسب في عدد من المؤشرات والحقائق التي يجب أن نتعامل معها بجدية باعتبارها رصيداً يمكن أن نبني عليه مستقبلنا ونتجاوز به هذه المرحلة الدقيقة من عمر الوطن. ما اعتقده جازماً للخروج مما نحن فيه من منطق (من ليس معنا فهو ضدنا)، وبدلاً من هذا المنطق الإقصائي والتجاري والانتهازي أن نتعامل في هذه المرحلة بمعادلة غالب أو مغلوب، ومنتصر أو مهزوم، وناجح وفاشل، وأنا أو أنت وبالتالي فإما أنا أو أنت، أو بتعبيرات بعضهم أنا أو الفوضى، والتي ستؤدي إلى خسارتنا جميعاً. فعلينا أن نتعامل بمنطق مختلف وجديد منطلقه أن الكل فائز ورابح، وناجح، ومنتصر،ووفقاً لمعادلة أنا وأنت التي تساوي نحن (أنا + أنت = نحن)، وبدلاً من طريق الشريعة أو العلمانية كل بمفردها، أن يكون هناك بديل ثالث واقعي ومعبراً أكثر عن طبيعة المصريين وقيمهم، وبدلاً من العسكرية أو المدنية أن يكون هناك طريق ثالث يجمع حسنات الأمرين معاً من أجل بناء هذا الوطن، وأن نفكر في الإيجابيات التي تحققت وأن نتجاوز عن السلبيات مهما كانت، ولم يسلم منها أحد أو تيار. ويمكن رصد هذه الإيجابيات في عدة نقاط، وذلك على سبيل الاختصار، وإن كانت تحتاج إلى مزيد إيضاح: أولاً: بالنسبة لمكاسب الوطن كل الوطن بمسلميه ومسيحيه، مصر شعباً ومجتمعاً وقوىً سياسية بمختلف رؤاها وتصوراتها الفكرية، لقد كسبنا جميعاً وبحق؛ احترام العالم وتقديره، كسبنا جميعاً وبحق؛ إيماننا القوي والجازم بأهميتنا كبشر كقوة حقيقية يجب أن تحترمها كل التيارات، وألا تتحدث باسمها بعد اليوم، وأن لصوتنا الضعيف قيمة حقيقية مؤثرة. كسبنا جميعاً وبحق أن الديمقراطية أصبحت جزءاً أصيلاً من مكوناتنا، فالأمس القريب في الصف الواحد، يقف المختلفون معاً يعبرون عن رأيهم دون أن يعيب أحد على أحد أو يتهمه بالخيانة وقصور الفهم، الكل في احترام متبادل واعتراف بالآخر، هذه المشاهد التي تواردت علينا عبر وسائل الإعلام تؤكد أن شعب مصر عظيم بحق وأنه يستحق وضعاً أحسن مما فيه، ويستحق في الوقت ذاته نخبة من جميع التوجهات أفضل من النخب الحالية التي لا هم لها إلا الصراع على السلطة مهما قلنا عن حسن نواياها، ويا ليتها تتعلم من هذه الشعب قيمة السلام والرضا والحب والبذل. ثانياً: القوى السياسية بإسلاميها وعلمانيها، فالكل خرج من هذه الجولة فائزاً ومكتسباً أرضاً جديدة، ولم يستولِ أو يستحوذ على أرض الآخرين، بل يمكن القول أن مصر خلال هذه الفترة الماضية برغم قسوتها قامت بتعمير وإحياء وإعادة بناء ما جرفته سنوات الخراب والتخريب الماضية من نفوسنا وعقولنا وقيمتنا، وإيماننا بأنفسنا، فالشعوب المتقدمة ليست بأحسن منا، ولكننا أعظم شعوب الأرض إذا وجد من يحسن إداراتنا، ويملك بقدرته على الإدراك والفهم والاستيعاب توجيه إرادتنا إلى ما فيه خير هذا الوطن. فالعلمانيون أصبحت لهم قوة كبيرة في الشارع، وصار لهم مشروع سياسي مشترك برغم تنوع خلفياتهم الفكرية والأيدلوجية والسياسية، فقد وحدتهم مواجهة الإسلاميين بشكل عام، خوفاً من التداخل غير الحكيم بين الدين والسياسة، أو توظيف الدين بشكل يسئ إليه أكثر مما ينفعه. كسب العلمانيون لأنهم فتحوا مجالاً واسعاً لمراجعة منطلقاتهم الفكرية ومدى ارتباطها وتوائمها بالواقع المصري، فأصبحت العلاقة بين الدين والسياسة أحد أبرز محاور الحوار المجتمعي في مصر، ولا شك أن ذلك سوف يدعم مصر في توجهها الليبرالي الواسع، وإن كان هذا النقاش سوف يجعلها تنظر بشكل عميق إلى حقيقة الشعب المصري، وتدرك أن الدين يجري في عروقه كما هي الأعصاب في الجسد، والدماء في العروق، بالتالي تغيرت لغتها الجافة تجاه قضية الشريعة بحيث يمكن أن تستند إليها في تعاملها مع برامجها السياسية، ويمكن القول أن ذلك سينتج عنه علمانية مصرية ذات خصوصية، وستصبح العلمانية مظلة تجمع المصريين أكثر مما تفرقهم. وكسبوا أيضاً رصيداً عريضاً في الشارع سوف يؤهلهم للاستفادة منه خلال الانتخابات البرلمانية القادمة، وأتوقع أن يحوزوا فيه نسبة كبيرة تمكنهم من طرح رؤاهم وعرضها على البرلمان القادم (في حال إذا مرر الدستور الحالي بنعم) وفتح باب تعديل الدستور في مواد الخلافية كما يرون، وذلك يعطيهم الوقت الكافي للنقاش والتداول وإعادة التفكير فيما يطروحونه بعقلانية وهدوء وروية. أما التيار الإسلامي، فقد كسب هو الآخر لأنه رغم أدائه السيئ خلال الفترة السابقة ما زال له رصيد كبير في الشارع، وما زال المصريون لديهم أمل فيهم بأن يكون على قدر المسؤولية والأمانة التي كلفهم الله بها. كسب أيضاً لأن قضيته الأساسية التي يدافع عنها أصبح الجميع وإن كان بمستويات مختلفة يدافع عنها ويتبرأ من مخالفتها، حتى أن المختلفين معها تغيرت لغتهم وأصبحت تدافع عن الدين باعتباره مرجعية لنا جميعاً وأن اختلف مستوى الفهم فيها، وذلك في حد ذاته إنجاز على كافة المستويات، فأصبحت الشريعة تجمعنا أكثر مما تفرقنا. كسبت التيارات الإسلامية احتراماً كبيراً في الشارع لأن لغتها السياسية أصبحت أكثر واقعية واقتراباً من المشكلات الحقيقية حيث غابت في الأزمة الأخيرة شيوخ الوعظ والفضائيات والغزوات والفتوحات، والمُلَهَمين والمالكين للحقيقة المطلقة وغيرهم من القصاص والوعاظ والمشايخ الذين يدغدغون مشاعر الناس ويهزونهم بكلماتهم العسال، وأصبح هناك سياسيون متدينون جيدون، وهذه تعد أهم مكتسبات التيار الإسلامي. كسبت لأنها حاولت أن تجمع المصريين على طريق واحد وبلغة واحدة، ولكنهم فشلت فتعلمت من فشلها ما يجب أن تصدع به وتلتزم به كما قال تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وهذا توجيه مبارك من الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم لمن آمن به، فما بالنا بمن خالفه في الرأي. كسبت لأنها اقتنعت أن الإصلاح المنشود ليس شرطاً أن يأتي على أيديهم، لذلك سيعملوا على تطبيق قوله تعالى:{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، فالأمر قائم على القدرة والإمكان والاستطاعة والعرض، وليس على الاكراه والإجبار والفرض. ثالثاً: الأقباط، لقد كسب الأقباط لأنهم أصبحوا قضية الجميع، حتى وإن كان الخوف هو الحاكم على تصوراتهم تجاه الإسلاميين ومنطقهم، إلا أنهم يدركون أنهم الفائزون في كل الأحوال، يكفي أن قضاياهم الأساسية أصبحت جزءاً أصيلاً من الدستور سيبنون عليه بالتأكيد في المرحلة المقبلة. رابعاً: الجيش المصري، لقد كسب الجيش المصري مكاسب بالجملة يكفي أنه أصبح صمام الأمان في وطن ملتهب، وأنه مناط الأمل في الغد المشرق، وأن بإمكانه أن يحدث نهضة حقيقية في مصر إذا تم استثمار قدراته في بناء البنية التحتية المصرية خلال الفترة المقبلة. خامسا: كسب الإعلام لأنه أصبح رقماً صعباً في المعادلة الحالية، وبرغم بعض أدائه السلبي وتوجهات بعض قنواته غير الموضوعية إلا أنه أصبح قاطرة لتغيير مصر، ويملك من الأدوات ما يستوجب أن يصحح به مساره وطريقة تعامله مع كثير من القضايا، فهي مكتسبات لا بد أن يبني عليها بدلاً من كونه مجرد بوق للنظام. وأخيراً: نتوجه إلى السيد الرئيس، بقولنا مهما كانت الرؤية القريبة تؤكد على أن رصيدك بدأ في النفاذ إلا أن هناك شواهد يمكن أن نبي عليها أنكم أكبر الفائزين في هذه المرحلة الخطرة: أولاَ: كسبتم لأنكم تبنون اليوم طريقاً ديمقراطياً، فهناك من معك ومن ضدك، وهذه أول طريق الديمقراطية، وإن كان ينقص هذا الطريق تعزيز مفهوم الشورى الحقيقية التي تجمع الأمة المصرية على طريق واحد مهما اختلف الرؤى كما أوصى الله تعالى بذلك، وكما هو نهج المصريين الذين تربوا في مدرسة الإيمان، وما موقف النبي موسى عليه السلام منا ببعيد في قوله تعالى:{وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}، ونؤكد لكم أنه مهما قيل عن ضعفكم وعدم قدرتكم على اتخاذ القرار وتراجعكم فيه وتخبطكم، ألا أني أراها فرصة لتكوين رأي مستنير للمرحلة المقبلة ليتعلم الشعب كيف يتحمل خياراته واختياراته فينظر ويدقق فيمن يختار. كسبتم – سيدي الرئيس – لأنكم هذا خلقتم وبنيتم معارضة قوية، وليست كما كانت سابقتها كرتونية أو محظورة سابقاً، ولكنها اليوم معارضة حقيقية وشرعية، والمعارضة القوية تخلق وطناً ونظاماً قوياً وعفياً، فالمعارضة هي الجهاز المناعي في الجسم، وكلما قويت المناعة زاد الجسم قوة وعافية، وكان ذلك في ذلك جميع الأطراف. كسبتم لأنكم أدركتم اليوم قبل الغد أن القضية حق وباطل، فكم من حق ضيعه صاحبه بسبب طريقته في أخذ الحق، وكما قيل في ثقافتنا الشعبية (أخذ الحق حرفة)، فما كان لك من حق يجب أن تأخذ بذكاء وفطنة، وأن تمسك بشعرة معاوية. كسبتم لأنكم أدركتم؛ أنك لن تحقق لمصر شيئاً إلا إذا تحررت من جميع التزاماتك ووعودك سواء لجماعتك أو لمن أيدوك ثم تركوك، لن تتمكن من تحقيق ما تريد إلا إذا حررت نفسك من كل شيء إلا من الله تعالى ثم الشعب المصري العظيم، فكن له سيكون لك بكل ما يملك. كسبتم لأنه ما زال الوقت أمامك والفرصة سانحة لتعيد التفكير في اتخاذ قراراتك وسياساتك بمنطق (أنا وأنت نساوي نحن)، وليس بمنطق (أنا أو أنت)، بمنطق الجميع فائز، وليس هناك خاسر، إنها ليست معركة وجود أو فناء، بل هي تجربة حياة واختبار وابتلاء من الله تعالى لنا جميعاً، لينظر أنحسن أم نكون من الفاسدين. وأخيراً نسأل الله تعالى للجميع الرشد والتوفيق، وأن يكتب الله الخير لمصر في عاجل أمرها وآجله. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]