من الحقائق الشائعة والمتداولة والمعروفة في علوم الأحياء أن ثمة كائنات وأحياء مائية وبرمائية ، مثل نوعيات معينة من الدلافين والحيتان والسلاحف وغيرها ، تمارس ما اصطلح على تسميته بظاهرة " الانتحار الجماعي " ، التي تأخذ في الغالب شكلا منظما وجماعيا بين أعداد هائلة من هذه الكائنات والأحياء ، لأسباب بعضها قد توصل العلم إلى استكشافها ، والأخرى مازال العلم عاجزا عن تبريرها وتفسيرها ، إلا انه في كل الأحوال باتت هذه الظواهر تمثل مناطق اهتمام خاصة لدى العلماء والباحثين والمغامرين والمستكشفين وغيرهم ، بدوافع شتى ومختلفة تتراوح بين الوصول إلى اكتشافات علمية ونظرية ، وليس انتهاء بالوصول إلى استكشافات غير مسبوقة يمكن توظيفها واستغلالها تجاريا ... وأيا كانت حدود الظاهرة وموضوعها ودوافعها وأسباب الانشغال بها ، فإنها ظاهرة قد ارتبطت في موضوعها وسياقات إنتاجها بنوعيات محدودة ومحددة من الكائنات الحية ، ولم يثبت بالدليل العلمي القاطع أنها ظاهرة موجودة لدى كل الكائنات الحية غير العاقلة ، كما لم يثبت علميا ولا تاريخيا وواقعيا أن هذه الظاهرة من الظواهر التي اتصلت بالمجتمعات الإنسانية وبالبشر عموما على اختلاف مشاربهم وعقائدهم ، إلا من بعض مؤشرات محدودة في دلالاتها الإحصائية ، لنزوع فئات محدودة من البشر في بعض المجتمعات وتحت ضغوط ظروف معينة إلى ممارسة هذا الفعل الشنيع وغير الإنساني أو الأخلاقي ، وبما لا ترقى لاعتبارها قانونا عاما أو ظاهرة ، بمثل ما تشهده النوعيات السابق الإشارة إليها من الكائنات الحية الأخرى . ومن هنا نؤكد أن نزوع البشر والمجتمعات الإنسانية عموما نحو هذه الظاهرة لا يمثل أصلا ثابتا من أصول العمران البشري و الاجتماعي ، بقدر ما يمثل استثناء على هذا الأصل ، .. إلا أنه وبالرغم من ذلك فالثابت في كثير من مدونات التاريخ السياسي و الاجتماعي للشعوب أن ثمة نوعية أخرى من ظاهرة الانتحار الجماعي تمارسها الشعوب وتنظيماتها الاجتماعية والسياسية ، وهي الظاهرة التي يمكن وصفها بظاهرة الانتحار السياسي للشعوب ، وإلا فليقل لي قائل أو مستنكر بماذا نفسر تصرفات زعماء و قادة شعوب دول مثل ألمانيا وايطاليا في عهد هتلر وموسيلليني ونزوعهم الدائم نحو تحقيق السيطرة والهيمنة والاستبداد بالداخل و والتوسع والهيمنة على شعوب ودول العالم والإصرار على ذلك في وقت كانوا يشهدون فيه بأعينهم ويدركون فيه بعقولهم بناء تكتلات وتحالفات قوية للوقوف في مواجهتهم والتصدي لهم ؟ وبماذا نفسر غباء الرئيس الراحل صدام حسين وهو يشهد بأم عينيه نهايته على أيدي التحالف الأنجلو- أمريكي ، المدعوم بشرعية وغطاء عربي وإسلامي ، وإصراره على غزو الكويت ومواجهة التحالف الدولي بأسره ؟ وغيرها من أمثلة تجدها لدى معظم الشعوب والحضارات لا فرق في ذلك بين حضارة متقدمة وقوية وحضارة متوارية وآفلة ، إلا في درجة ونوعية هذا الانتحار ، الذي يعني بالقياس على المفهوم الأصلي " السعي إلى الحتف والنهاية بإرادة وطواعية تتسم بشلل القدرة والغباء " . وبرغم أن التاريخ السياسي والاجتماعي للمصريين – بحمد الله ورحمته – لم يشهد تبلور واضح وحقيقي لنزوع الشعب المصري وقياداته التاريخية وتكويناته السياسية والحزبية والاجتماعية إلى ممارسة هذه الظاهرة ، من خلال تفجير المجتمع بصراعات مصنوعة ودائمة ومستمرة في الداخل لإسقاط الدولة وتفكيك المجتمع ، أو من خلال نزوع للطغيان ومحاولات التوسع والعدوان الخارجي على الشعوب والدول الأخرى بما تمثله من مخاطرة ونزوع نحو الانتحار السياسي أو العسكري ، وغلبة التوجه السائد في المجتمع ولدى الجميع ، حكام ومعارضة ، نحو تكريس طابع الاستقرار والحفاظ على كيان الدولة والمجتمع ، حتى في إطار الثورات والانقلابات الكبرى ، إلا أن تداعيات الواقع الراهن بعد ثورة يناير المجيدة ، وفشل القوى السياسية والحزبية جميعها في بناء توافق وطني ، ومشروع وطني للنهوض والإصلاح ، وحدوث حالة انشقاق واسعة في الصف الوطني ، خاصة بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة وتحقيقهم لأغلبية برلمانية وفوزهم في انتخابات رئاسة الجمهورية ، وفشلهم في تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني نتيجة لتغليب الاعتبارات الفكرية والأيديولوجية من قبل الجانبين معا : الإسلاميين والقوى الليبرالية واليسارية والمدنية ، واستمرار حالة الانقسام والاستقطاب الحادة بينهم ، نتيجة فشلهم في بناء توافق وطني كامل حول مشروع الدستور والاستفتاء عليه ، ونتيجة لتداعيات بعض المواقف والقرارات السياسية من قبل الرئيس والتيار السياسي الذي ينتمي إليه ، ينبئ بأن الشعب المصري المنقسم على ذاته والقوى الوطنية التي أسهمت وأذكت حدة هذه الانقسامات وفشلت في بناء الجسور نحو حوار وطني جاد لعبور المرحلة الانتقالية في طريقهم جميع حكاما ومحكومين ، إسلاميين ومدنيين نحو الانتحار السياسي ، بإرادتهم طواعية ، وها هو الرئيس يدعو الشعب إلى التصويت على مشروع الدستور والاستفتاء عليه ، في وقت تدعو القوى السياسية والوطنية إلى العصيان المدني والى رفض الدستور وحتى الإعلان الدستوري الأخير ، وكل يحشد أنصاره ، وكل يسعى لفرض تصوراته دون اعتبار لمفهوم التوافق والعمل الوطني المشترك ، الأمر الذي بدأ يثير المخاوف في النفوس والهواجس في الضمائر والقلوب ، وبات السؤال الرئيس السائد في الشارع السياسي الآن : هل يقدم المصريون على الانتحار السياسي بعد نجاحهم في ثورة أثارت إعجاب العالم وأبهرته ؟ هذا ما ننتظر الإجابة عليه ولا نتمناه . أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]