الشارع المصرى فى فترة مبارك كان شارعًا ميتًا، لا نبض فيه ولا حراك. سيطرت عليه ملاحقات الشرطة المرورية وإشغالات الطرق، وضغوط الداخلية على المصريين فى كل كبيرة وصغيرة، تطارد الناس عبر كل نقطة من نقاط الحراك فى هذا الوطن. فقد سيطرت الشرطة على كل تقاطع وناصية، لاستنزاف الأهالى عند كل نقطة مرور وابتزازهم، حتى هجر المصريون الشواع خوفًا من دولة الجباة ومصاصى الدماء. فجعلوا من مصر دولة ميتة ضعيفة منكسرة بين الأمم. فقد استطاع مبارك وزبانيته السيطرة على كل الشوارع والأزقة، ولم يبق منها إلا الشوارع الرياضية والفنية. فلا يخرج الناس حشودًا وجماعات، إلا مع انتصارات الكرة الهزلية، فصار المشتغلون بها وعليها من القامات الفذة التى ينظر لها بالبنان. الكل يسعى لصحبتهم، ويتمنى قربهم ليفتح بهم الأبواب المغلقة فى هذا البلد. وحينما عرف الخارج هذا الشارع التافه الذى صنعه مبارك على يديه، صار هو نفسه أضحوكة بين الشعوب والأمم. فالكل يستغل فيه ويتاجر، لأنه يملك شارعًا ميتًا لا أمل فيه ولا رجاء. فالجسم الميت لا يتحرك، والطفل الأبكم لا ينطق. وجدير بالذكر أن الشارع الميت فى عهد مبارك حينما هب، فقد هب ليقلب الدنيا ولم يقعدها، إلا برحيل مبارك عن الحكم. فقد ظل الشارع محتقنًا ومعبأً بكل ما يحمله من كراهية للنظام حتى انفجرت شحنة الغضب دفعة واحدة فى 25 يناير 2011. وظلت الشوارع المصرية محتشدة حتى خلعت مبارك فى 11 فبراير 2011. فى هذه الفترة كانت الشوارع كلها متفقة على هدف واحد، وهو إسقاط نظام الحكم، فأفلحت فى إنجازه. حيث خرج أكثر من 15 مليون مصري فى الشوارع، ولأول مرة فى تاريخ مصر، تجمعوا حول هدف واحد وهو رحيل مبارك عن الحكم. مصر فى الشارع حينها، صارت هى مصر القوية والعفية والملهمة للعالم وللمناطق المحيطة. مصر فى الشارع نظفت شوارعها بعد انتهاء هدفها، وصارت نظيفة ملونة مضيئة، يأتى إليها المبرزون من كل الجهات، ليلتقطوا صورة تذكارية فى الشارع الرئيسى لثورتها. خرجت مصر كلها فى الشارع فى مشهد بديع صفوفًا مرصوصة، لا أول لها ولا آخر، رغم أنها خرجت مختلفة حول التصويت " بنعم ولا"، فى استفتاء 19 ديسمبر 2011. بل إن مصر التى خرجت على الشرطة فى ثورة 25 يناير، هى ذاتها التى احتضنتهم مرة أخرى، حينما عادوا لشوارعها من جديد. ورغم أن تحريك مصر لشوارعها قد حرك العالم وأوقفه احترامًا لها، إلا أن الشارع المصرى قد اختلف اختلافًا بينًا بعد نجاح ثورتها. تارة لأسباب سياسية، وتارة أخرى لأسباب اقتصادية، وتارة ثالثة لأسباب اجتماعية وثقافية. ظهرت فى خروج الشارع السيناوى عن سيطرة الحكومة المركزية، وفى قنا حينما رفضت محافظًا مفروضًا عليها اعتراضًا على أن تكون محافظتهم كوتة مؤبدة عليهم. وخرجت ترفض حكم العسكر. وخرجت شوارع التحرير من كل الاتجاهات، حشدت للميدان عشرات الجمع، تارة للمطالبة بالشريعة، وتارة بالمدنية، وتارة بالقصاص، وتارة بالعدالة إلى غير ذلك من مطالب ورغبات. بل خرجت عن شكلها السلمى فى شوارع ماسبيرو ومحمد محمود وقصر العينى ومجلس الوزراء والعباسية. خرجت مصر حية فى الشارع فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، حتى جاءت بأول رئيس منتخب، هو الرئيس محمد مرسى. ساندته واختلفت معه فى قرارته فى يوليو 2012 بعودة انعقاد مجلس الشعب، وفى أغسطس بإحالة وزير الدفاع المشير طنطاوى ورئيس الأركان سامى عنان إلى التقاعد. من المؤكد أن خروج المصريين محتشدين فى الشوارع بعد الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس مرسى فى 21 نوفمبر 2012 لم يسبق له مثيل، حتى فى أيام الثورة نفسها. فشوارع مصر أصبحت الآن كلها نابضة بالحركة، ما بين رافض ومؤيد لقرارات الرئيس. ولعل المتابع لحركة المصريين حول قصر الاتحادية والشوارع المحيطة به، وحول مسجد الرحمن الرحيم بصلاح سالم، ومسجد رابعة العدوية بشارع الطيران، وشوارع مدينة نصر ومسجد النور بالعباسية، ومسجد مصطفى محمود والاستقامة وجامعة القاهرة ومراد بالجيزة، ومدينة الإنتاج الإعلامى بالسادس من أكتوبر، ناهيك عن كل الشوارع والأماكن والطرق المؤدية لميدان الثورة الرئيسى، التحرير، فضلًا عن شوارع المحافظات التى باتت مكتظة بالناس فى كل العواصم والمدن، شوارع مصر المعارضة بها أنماط مختلفة من البشر، من تيارات وتنظيمات مختلفة، مسلمين ومسيحيين، متفقة على هدف واحد، وهو إسقاط الإعلان الدستورى وتأجيل الاستفتاء ومراجعة الدستور. فى حين نرى الشوارع المؤيدة، كلها تنتمى للإسلاميين بشقيهم، الإخوانى والسلفى، لكنها منذ 9 ديسمبر 2012 ظهر فيها ممثلون للقبائل السيناوية ومطروح والصعيد فى رابعة العدوية. الانقسام يزداد فى شوارع مصر ويترسخ بصورة مخيفة. ومع أننا انتقلنا من شوارع النميمة إلى الشوارع الفاعلة والمحركة، لكن لأننا لم نتعود بعد، بأن تكون مصر بهذا الشكل الكثيف والمرعب فى الشوارع، ولم نتعود أن تضغط شوارعنا وتحرك الأمور للحصول على حقوق أو مصالح أو أهداف سياسية، وأن من يحوز شوارع أكثر يستطيع أن يجبر الطرف الآخر على الخضوع بالضربة القاضية، لذا فإننا نخاف ونرتعد من نهاية المشهد. ولعل المسيرات المتنوعة، والمظاهرات المتعددة فى القاهرة ومعظم المحافظات، تلك التى تحاصر القصور وتحيط بالإعلام وتقطع الطريق وتفرض القرارات، معبرة عن صراع الإرادات، لهو أمر جديد علينا تمامًا، لا يستطيع واحد منا أن يتكهن لمن تكون له الغلبة فى النهاية. الخلاصة أن مصر النائمة هى ميتة لا قيمة لها فى العالم، ولا فى نفوس بنيها، فى حين أن مصر اليقظة الحية والنابضة هى ملهمة للجميع، وعشقًا لكل أبنائها، ورغم ما نراه من عوار فى مصرنا الحية، إلا أننا كمصريين لا نملك إلا أن نفخر بها ونباهى الأمم والشعوب. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين-