في الأسبوع الماضي كانت الذكري الثالثة والخمسون لثورة يوليو سنة 1952 التي أدت إلي تغييرات شاملة في مصر الكنانة، وكان تأثيرها كبيراً علي المنطقة كلها وامتد أثرها إلي دول العالم الثالث! ولاحظت أن الذكري مرت بهدوء وفتور!! وبدا المواطن العادي وكأنه غير حريص علي الاهتمام بتلك المناسبة والاحتفال بها، ولم يكن هناك أي أثر للابتهاج الشعبي!! وفي هذا اليوم بالذات وقعت مصيبة!! ففي ساعات الفجر الأولي حدثت انفجارات مروّعة في شرم الشيخ، درة السياحة المصرية، أهلكت الحرث والنسل وكانت خسائرها فادحة! ومن الطبيعي أن يتم بعد ذلك إلغاء كافة الاحتفالات الرسمية! وإذا أرجعت سلبية الناس في مصر تجاه ثورتهم إلي سبب وحيد يتمثل بالجريمة التي وقعت بشرم الشيخ فهذا تشخيص خاطئ، وتبسيط للأمور، فهناك أسباب عدة لهذا الفتور. وكانت هناك آمال عريضة للشعب المصري أكد عليها قائد الثورة جمال عبد الناصر، رحمه الله، وبعد وفاته انتقد خليفته أنور السادات السلبيات التي وقعت في عهد ناصر، وقال سنفتح صفحة جديدة !! ونحن الآن في السنوات الأولي من قرن جديد.. والناس عندها خيبة أمل بسبب سوء أوضاعهم فكيف تطلب منهم أن يحتفلوا بالثورة التي قامت لتحسين أحوالهم؟؟ والمواطن العادي يكره ثرثرة الصالونات والنظريات، والحديث عن أمجاد الماضي، ولا يري إلا واقعه المرير، فإذا جئت إلي المشاكل التي يعيشها تجدها عديدة. ومن أخطر ما تعانيه الغالبية الساحقة سوء أوضاعها المعيشية.. فهناك ملايين من الشباب لا يجدون عملا، والبطالة أزمة مستعصية لم تجد لها حلولاً مناسبة حتي هذه اللحظة، بل أراها تتفاقم يوماً بعد آخر! ومعظم الذين أسعدهم حظهم بالعمل يشكون بدورهم، فهم يجدون صعوبات حقيقية في تدبير حياتهم بسبب كونهم بين.. مطرقة قلة أجورهم من ناحية، وسندان نار الأسعار من جهة أخري. والفساد بأرض الكنانة ظاهر للعيان، وبعض مظاهره اكتسب حصانة من الصعب التغلب عليها، قبل تفوّق أبناء أساتذة كلية الطب علي غيرهم بسبب المجاملات والتسهيلات المقدمة لهم! وظاهرة الدروس الخصوصية هناك عيني عينك ولم تعد خافية علي أحد، وكل طالب عليه أن يدفع آلاف الجنيهات ثمناً لها حتي ينال تعليماً حقيقياً ويستحق لقب دكتور، فالمحاضرات العامة لم تعد وحدها تجدي نفعاً، والغريب أن الحكومة ما زالت تصر علي أن التعليم في مصر بالمجان!! وهذا القول أراه بمثابة اسطوانة مشروخة تكررت كثيراً وينفيها الواقع!! وهناك أزمة حادة تواجه شباب مصر اسمها الإسكان، وأحدث الإحصاءات تقول إن هناك تسعة ملايين من المصريين يعيشون في أحياء عشوائية تفتقد إلي أبسط الخدمات، وإذا كان الشاب فقيراً أو متوسط الحال وأراد إكمال نصف دينه فسيجد مشكلة حقيقية في الزواج بسبب صعوبة تدبير المسكن الملائم الذي يتكلف مبالغ طائلة لا يملك منها شيئاً!! ومن أهداف ثورة يوليو تحقيق العدالة الاجتماعية، فإذا نظرنا إلي واقع مصر الحالي تجد البون شاسعاً بين طبقة مترفة لا تزيد علي 1% من السكان، وغالبية ساحقة تشكو الفقر والفاقة، بينما اختفت الطبقة الوسطي من الميدان! وهناك من يردّ هذه المصائب الاجتماعية إلي سياسة الانفتاح الاقتصادي التي ابتدعها الرئيس أنور السادات، رحمه الله، سنة 1974م.. عقب حرب أكتوبر عندما قرر رئيس مصر آنذاك طلاق شريك حياته السابق الاتحاد السوفييتي والزواج بأمريكا التي رأي أنها ستحقق مطالبه في حياة سعيدة!! وقد سار الخَلَف في طريق السلف! فالرئيس مبارك حريص علي علاقته بالولايات المتحدةالأمريكية، وفي عهده تم توجيه ضربة قاصمة إلي القطاع العام وبيع مئات الشركات فيما عرف بسياسة الخصخصة، ورجال الأعمال حالياً لهم اليد الطولي في اقتصاد مصر! ولا أعتقد أن الوضع في عهد ناصر كان أفضل! بدليل هزيمة سنة 1967 "الشنيعة"! وانتصار إسرائيل لم يكن سببه أخطاء عسكرية من الجانب المصري أو السوري، بل لأن هذه الأنظمة لم تكن صالحة للحياة.. أشبه بواحد مريض فاجأته أزمة فلم يستطع تحملها لأن صحته ضعيفة، وليس عنده مناعة، وحالته يرثي لها!! والغريب أن هذا الذي يشكو ويئن ويتألم عنده عناد عجيب وراكب رأسه بالتعبير العامي!.. العلاج واضح ويتمثل في ديموقراطية حقيقية لمعالجة الداء الذي هو الاستبداد السياسي، لكن أنظمة بالروح بالدم نفديك يا ريس تصر علي أن تعيش بالأزمات! وأرجوك أن تعلم، يا سيدي القارئ، أن شفاء المواطن العربي من أمراضه لن يتم إلا بعد علاجه من الفرعونية الحاكمة وهي مثل داء السرطان.. أوجاعها مؤلمة، وسريعة الانتشار في الجسد من المحيط الهادر إلي الخليج الثائر.. ويارب تشفينا وتنقذنا من بلاوينا!! ولا أظن أن المواطن يمكن أن يحتفل بذكري أي ثورة وهو يئن ويشكو من أمراض عدة. أليس كذلك؟؟ --- صحيفة الراية القطرية في 31 -7 -2005