كنت أود ان أتوقف عن الكتابة حول الفيلم الهندي الخاص بالكاتب سيد القمني، والتهديد الذي تلقاه بالقتل، وذلك بما كتبته خلال الأسبوعين الماضيين، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. فالقصة مثيرة، وأحداثها تغري بالخوض فيها، وهي قضية مسلية تصلح لفصل الصيف، حيث الحر الرهيب الذي لم يعد يخص القاريء في قطر، فالكاتب يعاني أيضا منه، بعد أن أصبح صيف القاهرة خليجيا، ولم يعد كما كنا نصفه من قبل بأنه حار جاف صيفا، فالرطوبة مرتفعة بشكل يوحي بأن المخزون الاستراتيجي من الأوكسجين قد نضب!. أنا - والعياذ بالله من قولة أنا - أكره الصيف كراهيتي لرؤية كونداليزا رايس هذه الأيام، والتي كنت أظن أنني معجبا بها، وتصورت انه إعجاب بقوامها الملفوف، ورشاقتها الظاهرة للعيان، وجمالها الذي يحل من علي حبل المشنقة، فاكتشفت ان هذا كله وهم، وانه إعجاب بموقفها، عندما تصدت لأنظمة القمع العربي، وجعلت أنظمة للحكم في العالم الثالث، والتي تبدو لنا معشر الشعوب عملاقة، في حجم عقلة الإصبع، وفي كثير من الأحيان لا تري بالعين المجردة، وبمجرد ان تراجعت عن موقفها، وباعت القضية لصالح إسرائيل، أصبحت تبدو لي قرد قطع ، فلا جمال خلاب، ولا سيقان ملفوفة، ولا رشاقة ظاهرة، وأصبحت كلما بحثت عن العفة نظرت إليها، فتحمل وجودها يدخل في باب الصبر علي المكاره!. عندما اقتحمنا الصيف، فكرت ان أكتب في قضايا اجتماعية، وقررت ان أبدأ بالكتابة عن العنوسة، لاسيما وان كونداليزا هي أشهر عانس في العالم، ووقتها لم أكن قد فقت من وهم الحب، لكن الذي حدث أن القضايا السياسية - وكما هي العادة - شغلتني، الي أن جاءت قضية تهديد سيد القمني بالاغتيال من قبل جماعة الجهاد، والتي علي أساسها أعلن تبرءه من أفكاره، وقرر اعتزال الكتابة، مخافة أن يلقي أبناؤه مصير أبناء فرج فوده، حسب قوله!. وقد اعتقدت أنني بما كتبته يوم الأربعاء الماضي، لم يعد هناك ما يستدعي مواصلة الكتابة، لا سيما وحسب ما كتبت ان تفجيرات شرم الشيخ، غطت علي تفجيرات سيد القمني، لكن يشاء السميع العليم انه في نفس يوم نشر المقال، كان القمني يخرج علينا برسالة جديدة نجح بها في شغل الكاميرات المشغولة بأحداث شرم، وعاد بنفسه من جديد الي منطقة الأضواء، ولم تكن تمر أيام علي هذا حتي طالعنا (الشاعر) أحمد الشهاوي بتصريح مفاده، أنه تلقي تهديدا بالقتل سابق للتهديد الذي تلقاه سيد القمني، وأخشي أن تحدث (خناقة) في المرحلة القادمة، حول من الفائز الأول بتلقي رسالة التهديد: الشهاوي، أم القمني، أم ثالث قد يظهر بعد ذلك، وقد يتنازع كثيرون علي هذا الشرف الرفيع!. ودخول الشهاوي علي الخط وقوله انه تلقي تهديدا بالقتل، يؤكد ان المثقفين المصريين أصبحوا علي خط النار، وفي مرمي التنظيمات المتطرفة، ومن كل الأنواع والأشكال، فالمنظمة التي قال القمني أنها هددته تدعي جماعة الجهاد، أما المنظمة التي هددت الشهاوي فتدعي: أنصار الإسلام ، ومقرها المختار شمال العراق.. ألم أقل لكم أنها قضية مسلية، وتصلح للكتابات الصيفية، فهي ترطب الجو، علي العكس مما تفعله الكتابات السياسية من المساهمة في ارتفاع درجات الحرارة، درجة او درجتين، وربما خمس درجات!. القمني كان قد اختفي بعد ان حقق بيانه بالاعتزال الغرض منه، وترك ابنته وناشر كتبه، يتوليان الحديث نيابة عنه، والابنة ترد علي من يتصل هاتفيا بوالدها، بأن قرار الاعتزال نهائيا ولا رجعة فيه، فمهما كانت كتابات (الوالد) مهمة، إلا أن هذا يتضاءل أمام أهمية أن يبقي حيا بجانب (الأبناء).. يا كبدي، فالقول له دلالته، وهو يمزق القلب إربا إربا، علي نهاية مفكر جهبذ، دفعه الإرهاب الي ان يمسك عليه لسانه، ويسعه بيته، ولا يرد حتي علي الاتصالات الهاتفية!. أما الناشر فحكايته حكاية، فالرجل تصدر المشهد، وأصبح نجما، تنشر الصحف ومواقع الإنترنت صوره، وتحتفي بتصريحاته، وهو يبدو مقاتلا، فقد جعل هدفه في الحياة التأكيد علي ان رسالة التهديد حقيقية، وقاتل ضد هؤلاء الذين شككوا فيها، ولو اقتصر هجومه علي الذين قالوا أنها مفبركة لهان الأمر، فالدفاع عن مصداقية الكاتب أمرا مهما بالنسبة للناشر، لأن فقدانه للثقة والاعتبار، سيعود عليه بالخسارة المادية، لكن المشكلة انه نفي أي كلام يمكن ان يشكك في الرسالة، ولو بالقول من ان هناك عابث أرسل التهديد للكاتب المفكر، وقد تحول الناشر، في غياب الكاتب، الي متحدث رسمي باسمه!. لكن في الأسبوع الماضي ظهر القمني في الصورة ليخبرنا بالرسالة الثانية التي تلقاها من جماعة الجهاد، ربما لأنه رأي ان انشغال الكاميرات بتفجيرات شرم الشيخ يستدعي لجذبها ان يكون هو بشحمه ولحمه المتحدث، ويستدعي كذلك ان تكون الرسالة تغري بالاهتمام بها، فكان ما جاء بها مثيرا للغاية، فالتنظيم أخبر صاحبنا انه نجا من القتل بأعجوبة، وهو أسف يصلح للتعبير عن أنهم أعدوا العدة، ونصبوا له كمينا، لكنه نجح بقدرة قادر في الإفلات منه، لكن المرء يعجب عندما يكون الأسف مرده الي انه اعتزل وأعلن تبرءه من أفكاره، فعصم دمه منهم، مع انه كان من الأفضل لهم وللإسلام، ان يحملوه علي التبرؤ، دون ان يقول ان هذا تحت تهديد السلاح، او انه فعله والسكين علي رقبته!. ما علينا، فالواقع أن هذا ليس هو المثير في الرسالة، فالمثير فيها هو ما قيل من اعتراف الجماعة المهددة بخطف واغتيال الصحفي رضا هلال مساعد رئيس تحرير الأهرام، الذي اختفي في 11 أغسطس 2003، أي قبل عامين، تقريبا، وقد مثل اختفاؤه لغزا لم تستطع أجهزة وزارة الداخلية - وحسب المعلن - حله، او فك طلاسمه. رضا هلال رد الله غيبته ان كان حيا، ورحمه الله ان كان قد أفضي الي ما قدم، واحد من المتأمركين المصريين، وقد لمع نجمه بعد الهجمات التي تعرضت لها واشنطن ونيويورك والحرب الأمريكية الأفغانية، وكان واقعا صبابة في غرام الأمريكان، وكثيرا ما استضافه التلفزيون المصري، فعبر عن حبه وغرامه بشكل مستفز، وقد هاجمته كثيرا، ورفض بسبب هذا أن يشارك في حلقة لبرنامج ضد التيار الذي يقدمه تلفزيون ال إيه.آر.تي ، لأن المعد أخبره انني سأكون أحد الضيوف، وقد طرب بتحرش بوش بالعراق، وقيل انه كان صاحب المانشيت الصادم الذي صدرت به الأهرام في اليوم التالي لبداية الحرب وعلي ثماني أعمدة، وكان نصه: وبدأت حرب تحرير العراق . وفي الواقع أنه لم يكن قد استغل وجوده مسؤولا بالدسك المركزي واختطف الصحيفة العريقة، فهذا هو موقفها، وللدقة موقف قياداتها!. وقد مثل اختفاء رضا هلال طلسما حتي الآن، فالرجل ليست له عدوات تستدعي خطفه واختفاءه وكأنه فص ملح وذاب، علي الرغم من انه لا يسكن في الخلاء، ولكنه يقيم في وسط القاهرة، ومن هناك اختفي، وعلي الرغم من موقفه السياسي هذا، فإن الإجماع منعقد علي أن هذا لا يبرر ما جري له، وزاد الأمر تعقيدا ان أية جهة لم تعلن مسؤوليتها عن ذلك، وعندما يأتي سيد القمني ليقول ان رسالة تلقاها علي بريده الإلكتروني تؤكد أن جماعة الجهاد تعلن فيها أنها قتلته، وان القمني باعتزاله قد نجا من نفس المصير، فإن الأمر لابد وان يمثل قمة الإثارة، ويستدعي الاهتمام ولفت الانتباه المركز ناحية شرم الشيخ!. موقف رضا هلال السياسي لا يستدعي قيام تنظيم الجهاد المتحالف مع تنظيم القاعدة بقتله، والذي كان ولا يزال في حرب مع أكبر قوي في العالم، وليس من المنطق أن يجد التنظيم وقتا لينشغل بتصفية حسابات مع كاتب، هو مجرد معجب بهذه القوة الجبارة، فضلا عن أن هذا التنظيم لم يقدم أمارة علي فعلته، فلم يتحفنا بالحديث عن تفاصيل عملية الاختطاف او القتل، ولم يصور لنا رضا وهو في قبضتهم، ولم نر صوره وهو يتم استجوابه او استتابته، فضلا عن ان عدم الإفصاح عن ذلك في حينه والسكوت قرابة العامين لإعلانه في رسالة إلكترونية الي الكاتب سيد القمني، أمرا لا بد وأن يدفع بقبيلة من الفئران لتعبث في صدورنا، وتدفعنا للشك في مصداقية الرسالة!. تصدر الناشر للمشهد يجعلنا نشعر أننا أمام واحدة من حركات بعض المطربين، عندما يسعون للترويج لألبوم لهم أصابه الكساد، او أنه في طريقه للأسواق، فهم ينشرون الشائعات حول أنفسهم، وغالبا ما يعلنون أنهم قرروا اعتزالهم الغناء، وكان آخر هؤلاء هاني شاكر، الذي أعلن الاعتزال، واهتمت الدنيا بهذا القرار، وبعد أن حقق المراد، تمكنت المذيعة أميرة عبد العظيم من أن تدفعه الي العدول في قراره التاريخي، من خلال استضافته في برنامجها الذي يبثه التلفزيون المصري. من الواضح أن مثل هذا اللغط من شأنه ان يروج للكتب، وينعش سوقها، فالشاعر أحمد الشهاوي قال ان كتابه الوصايا في عشق النساء ، والذي قال الأزهر بمصادرته قد وزع منه 40 ألف نسخة، ومن المعلوم بكتب الشعر بالضرورة أنها لا توزع في الأغلب الأعم أكثر من ثلاثة آلاف نسخة. ولعل هذا يفسر ما نسمعه من قيام بعض الكتاب بدفع البعض لكتابة شكاوي في كتبهم وإرسالها الي الأزهر، بهدف مصادرتها، وحرص المؤلفون أنفسهم علي الخوض في قضايا العقيدة، حتي يحصلون علي شرف المصادرة، فيقدمون أنفسهم علي أنهم ضحايا حرية الرأي، وشهداء الشجاعة الأدبية، فينصبون زفة حولهم، ويروجون لسلعتهم!. من الواضح أن الشهاوي محظوظ، فكلما أصدر مجموعة شعرية تحركت ضده المرجعيات الدينية، وفي حمية التصدي للرجعية الإسلامية، لا يتعرض الجميع للقيمة الأدبية لانتاجه، ويتحول كل ناقد الي شمشون الجبار، حيث ينشغل الجميع بإعلان الحرب علي طواحين الهواء، ولا يتطرقون الي أصل الموضوع!. ولعل هذا ما حرضه علي التحدي وهو يعلن انه تلقي من تنظيم أنصار الإسلام بشمال العراق تحذيرا من نشر الجزء الثاني من الكتاب، علي أساس انه قبل ان يقدم علي هذه الخطوة سيكون تحت الثري، مع أن واحدا مثلي لم يكن يعلم بأن للكتاب جزءا ثان في طريقه للنشر، لكن من الواضح أن أعين جماعة أنصار الإسلام بشمال العراق لا تغفل ولا تنام، ولم يتصرف الشهاوي علي طريقة القمني، وإنما قرر المواجهة، ولم يرضخ للتهديدات، فقد أعلن أنه سيصدر الجزء الثاني من الوصايا العشر!. اشكروني أيها القراء، لأنني سليت صيفكم، علي وزن سليت صيامكم.. دمت لكم!. ---- صحيفة الراية القطرية في 3 -8 -2005