فى يوم مشرق ميمون مشهود، وفى ساعات طيبة طاهرة، وفى لحظات خالدة عاطرة، بعد أن أمضت الشهور والأيام اللجنة التأسيسية لوضع الدستور المصرى الجديد، واختتمت هذه المدة بساعات السحر من فجر يوم الجمعة الموافق 30 من نوفمبر 2012، خرجت المسودة النهائية للدستور المصرى المنشود والمرتقب. لقد خرجت هذه المسودة وهى تضيف إلى نضال الشعب المصرى الأصيل إشراقة جديدة، تتلاقى مع كثير مع الإشراقات المبهرة التى أحرزها هذا الشعب المصرى العظيم، وأهمها إشراقة يوم الخامس والعشرين من يناير 2011 اليوم الذى تفجرت فيه هذه الثورة المصرية العظيمة، وإشراقة يوم الرابع والعشرين من يونيو 2012 حينما أعلنت لجنة الانتخابات الرئاسية المصرية د. محمد مرسي فائزًا في الجولة الثانية من الانتخابات برئاسة مصر، وإشراقة يوم الثلاثين من يونيو 2012 عندما تولى د. محمد مرسى منصب رئيس جمهورية مصر العربية بصفة رسمية بعد أن أدى اليمين الجمهوري الخاصة بهذا المنصب العظيم أمام المحكمة الدستورية العليا بالقاهرة. ويضاف إليها أيضًا الإشراقة الساطعة التى فعلها فخامة الرئيس يوم 11 أغسطس 2012، وذلك بإصدار الإعلان الدستورى الذى تم فيه إزاحة حكم العسكر، والعودة بالدولة المصرية إلى وجهها المليح وطريقها الصحيح، ومدنيتها الفاخرة. وأعظم ما فى هذه المسودة التى ستصبح بمشيئة الله تعالى دستور مصر العظيم، أنها لم تقدم إلى الشعب المصرى كمنحة من الحاكم، ولا بناء على توافق رخيص بين الحاكم والمحكوم يتنازل فيه كل من الطرفين عن شيء معين مقابل الحصول على شيء آخر، ولا بناء على جمعية انفرد الحاكم بتشكيلها، أو فريق انفرد الحاكم بتكوينه، تمامًا كما كان يسير على ذلك فى الماضى، وفى كثير من المجتمعات والدول الملكية والجمهورية على السواء، وإنما جاءت هذه المسودة العظيمة بناء على أعظم ما تفتقت عنه عقول البشرية وأذهان العالم من طرق لوضع الدساتير العظيمة، وتتمثل هذه الطرق فى تشكيل لجنة أو جمعية تأسيسية منتخبة على أسس شعبية متينة، أو طريق الاستفتاء الدستورى الشعبى لتكون الكلمة الأخيرة والنهائية للشعب الذى سيحكم بهذا الدستور، هو الذى يقره أو يزيحه، يقبله أو يرفضه، يضفى عليه الشرعية أو يحرمه منها، ليكون الدستور فى النهاية من الشعب وإلى الشعب وعلى الشعب. ومن مفاخر دستورنا الذى نرتقبه من وراء هذه المسودة، أنه جمع بين الطريقتين معًا، فلقد جاء عن طريق الجمعية التأسيسية المنتخبة من مجلس برلمانى منتخب، شهد بنزاهة انتخابه القريب والبعيد، والعدو والصديق، والقاصى والدانى، ولن يتم إقراره بعد إلا بعد عرض مسودته على جموع الشعب المصرى كله ليقول فيه كلمته، ويبدى بصدده شهادته، ويحكم عليها فى النهاية بالحياة أو الموت. ولا يمكن بعد ذلك كله الالتفات إلى ما يقوله المتربصون بالحكم، والمترصدون لهذه الجمعية التأسيسية العظيمة، من القول بأنها كانت لا تمثل أطياف الشعب المصرى كله، فتلك حجة واهية ساقطة، تتعارض عن يقين مع واقع هذه الجمعية التى طالت بأذرعها كل المؤسسات والنقابات والاتجاهات والأحزاب والعمال والفلاحين، والإسلاميين واللبراليين والمدنيين وغيرهم...، كما يسقطها أيضًا توافق البرلمان المصرى نفسه أيام انعقاده على طريقة تشكيل هذه الجمعية وذلك بعد عناء شديد، وحوارات مريرة، وجلسات متكررة حول طريقة تشكيل هذه الجمعية، ليصل فى النهاية إلى هذا التوافق الذى قامت على أساسه هذه الجمعية. وإن عدم الإقرار بهذا التوافق اليوم من قبل هؤلاء المتربصين والمترصدين لا يعنى إلا أنهم يريدون أن تستوعبهم الجمعية وحدهم، أو تسوعب الجمعية كل أفرادهم بالإضافة إلى من يمثل غيرهم على أحسن تقدير، وهذا لا يمكن أن يكون، إذ أن عدد الجمعية محدود، ولا بد أن تكون نسبة التمثيل فى الجمعية منضبطة متوافقة مع كل التيارات والاتجاهات. ومن مفاخر هذه المسودة ومفاخرها كثيرة لا يتسع لها كلها هذا المقال أنها وضعت فى جو يعيش فيه كل أفراد الشعب المصرى أعلى وأحسن حالات الحرية وممارسة الديمقراطية، وفى مقدمة هذا الشعب المصرى العظيم، أعضاء اللجنة التأسيسة التى أبدعت هذه المسودة، فلقد أخرج كل عضو فيها ما عنده من أقوال وآراء واتجاهات فى حرية تامة، لا يخدشها تكبيل، ولا يؤثر فيها ضغط، ولا ينقص منها طغيان، وبناء على ذلك كنا نشاهد النقاشات المستعرة، والحوارات المتأججة، والجلسات الحامية، والتى لم يكن من ورائها عند الجميع إلا حب مصر وحب ترابها، الذى اشتعل فى صدروهم، وعاد فى النهاية بردًا وسلامًا على أعمالهم ومسودتهم. هنيئًا لكم أيها المصريون بهذه المسودة الباهرة، وهنئيًا لكم بعد اعتمادها والتصويت لصالحها بهذا الدستور العظيم، وبالتالى لن يتبقى لكم إلا أن تأخذوه بقوة. أستاذ العلاقات الدولية المشارك بجامعة الأزهر وجامعة البحرين [email protected]